عبد اللطيف الهدار

الميلاد
Nov 11, 1960 (العمر: 63)
نموذج من كتاباتك
مقطع من عمل سردي قيد الإنجاز:

لم يكن في البال شئ، غير أن الوجدان كانت به كتلة لزجة وسمجة وبغيضة من شعورهاجم بشكل فجائي؛ شعور ثقيل ممزوج بغير قليل من التبلد والتقزز والاشمئزاز، حتى لكأنه بالوعة من ترسبات قذرة، أو زنزانة رطبة تسرح فيها كائنات طفيلية بشكل سائب. وكان الوقت مساء شتويا. مساء شتويا ثقيلا جدا كأنه مقدود من حديد، وباردا جدا كالجليد القطبي. فكرت: لابد من تغيير الجو، ولن يتغير الجو إلا بتغيير الفضاء. وعولت على مغادرة البيت.
تسكعت في المدينة ما استطعت. جبت الشوارع الرئيسة، وتجرأت وجبت حتى الأزقة الخلفية التي لم تطأها قدماي من قبل. وظل البال فارغا، والشعور كتلة من اللزوجة الثقيلة والسماجة البغيضة. وظللت أجوب إلى ان كادت المدينة تفرغ إلا من الليليين. والليليون كائنات أخرى، وأصناف شتى. قلت: أعود أدراجي. شئ ما حثني أن أجرب التسكع الليلي.
وأنا بطبعي إلى الجبن أقرب، وغرائزي نهارية. ولأني أعرف نفسي جيدا، فقد برمجتها مذ أن التحقت بالوظيفة العمومية على وتيرة صارمة: الانضباط في العمل، وملازمة البيت، وتوفير الدرهم الأبيض لليوم الأسود. وتكفيني قراءة الروايات ومشاهدة البرامج التلفزية، خاصة سهرات السبت، ترويحا عن النفس. أنام باكرا وأستيقظ باكرا، وأعتني بصحتي جيدا. لا أدخن، ولا أقرب الموبقات، وأمارس تمارين رياضية خفيفة كل صباح. وتغذيتي صارمة أيضا، آخذ ما يكفيني من الفيتامينات والبروتينات والأملاح المعدنية، واحتاط كثيرا من الأبيضين: الملح والسكر، وأعمل بمدأ لا إفراط ولا تفريط، حتى أني علقت في مطبخي لائحة بالمواد الغذائية ومكوناتها، وعنونتها بـ : اعتنِ بصحتك يا محمود.
وها أنا في النصف الثاني من عقدي الرابع، أسير الآن في شوارع طنجة وأزقتها، والوقت ليل. ليل شتوي بارد. بالي فارغ، ووجداني كتلة لزجة وسمجة وبغيضة. فكرت أن أكون منطقيا، وأجبر نفسي التي استطابت هذا التسكع المجاني على العودة إلى البيت انسجاما مع قناعاتي، ونكاية في هذه الرغبة الجامحة التي لا أدري من أين ولا كيف تسلطت علي، فالليل كله مفاجآت، ومفاجآته في الغالب غير سارة، وليل طنجة يقولون عنه مجنون وملغوم، وأنا بطبعي إلى الجبن أقرب، ولا أجد ضيرا ولا حرجا في أن أعترف بذلك، وروح المغامرة عندي منعدمة تماما، بل إني لا أجد سعادتي الحقييقية ومتعتي الآمنة إلا حين أغلق علي باب بيتي ونوافذه. في بيتي فقط أكون أميرا مطلقا، وأمارس ما أشاء من حماقات ونزوات باطمئنان تام. الأمر عندي هكذا، بسيط للغاية: وظيفة محترمة، وبيت آمن، وصحة جيدة، والباقي هراء.
ومع ذلك، لم أقو على كبح هذه الرغبة الكاسحة التي لم أعهدها فيّ من قبل، في أن أجرب هذا التسكع الليلي في هذا الجو الشتوي البارد، في هذه المدينة الليلية المفتوحة على العالم، وعلى المفاجآت.
قادتني قدماي إلى الكورنيش. الهواء البحري على ما به رطوبة، كان منعشا ولذيذا. والأضواء تنعكس على الإسفلت في شحوب حالم، وكان ثمة أناس يذهبون، وأناس يجيئون. ورغم البرد، ورغم الليل، لم تكن النفس لتخطئ أن ثمة أمن وسلام، وثمة سكينة تسري بنعومة في هذا الليل الشتوي البارد، وأن لليل طنجة سحرا. وتهيأ لي أني لأول مرة أشرع في اكتشاف طنجة الأخرى التي لا أعرف. صحيح أني قبل أن أغادر أهلي وأشد الرحال لأتسلم وظيفتي، زودني الأهل بنصائح قوية، وقطعت لهم ولنفسي عهدا أن ألتزم بها، ليس لأنهم فرضوها علي، ولكن لأني نشأت على تلك النصائح مذ أن كنت طفلا صغيرا ونحيفا، وتشربتها حتى تطبعت عليها وصارت عندي ناموسا لا أحيد عنه. وفي الحقيقة لم تكن تلك النصائح إلا تحصيل حاصل، ومن باب الذكرى التي تنفع أمثالي من المؤمنين. ولكم أن تتخيلوا طبيعة النصائح التي يمكن لأسرة قروية فقيرة ومحافظة أن تزود بها ابنها البار الذي صار فخرها بين الأهالي، وعقدت عليه آمالا كبيرة في تحسين أوضاعها المعيشية، وارتقائها الاجتماعي.
وعلى العموم، فأنا ومن تربيتي أكاد لا أثق إلا في المقربين جدا. ثم إني أنام باكرا، وأراعي حرمات الناس. ومن الأمور المهمة عندي أن أوفر وأدخر ما وسعني التوفير والادخار. وطبعا أحافظ على الصلوات الخمس، وإن كنت في الغالب أجمعها وقت العشاء، ويحصل أن أجمع يومين أو ثلاثة. أما صلاة الجمعة فلا تفوتني أبدا. ومهما كان، فالصلاة في البدء والمنتهى تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتحصن العبد من الوقوع في المعاصي والرذائل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للنص بقية
البلد
المغرب
أعلى