نبيلة غنيم

الميلاد
Feb 26, 1962 (العمر: 62)
نموذج من كتاباتك
حزن خلف ابتسامة

أشعة الشمس الصارمة تلهب خديها وتضرب رأسها بعنف .. وجهها الأبيض المشرب بالحُمرة يصبح أحمر قانياً ، تلهث مسرعة الخطا مع خطوات الساعة المجنونة لتصل إلى عملها في الموعد المحدد.. يأخذ جمالها العيون.. يحاول بعضهم التقرب إليها .. لكنها الملكة التى تترفع، يطل الشموخ من قامتها المنتصبة سامياً.. الكل يحاول القفز علي سور حياتها، لكنها موصدة الأبواب، فلديها من الأحلام ما يغطي السماء والأرض.. لا مساحة لطير جارح، أو فأر مرتجف يبحث عن غنيمة يسد بها رمقه..
تتخذ من الذكرى1 معطفاً دافئاً رغم برودة حياتها، ومن الابتسامة تردد لحنًا شجيًا يُطرب القلوب الحزينة ، وتنثر الحياة فوق بســـــاط عمر أولادها الوارف..
هذا كان حالها بعد الرفاهية المفرطة التى كانت تعيشها مع زوجها الذي توفي في لحظة عابثة وهو في طريقه إلى عمله.. توقفت عجلة الزمن هذا اليوم ، فقد اصطدم قلبها بعويل لم يكن بين حساباتها .. قررت أن تتجاسر وتصمد .. عندما رأت انهيار كيانها التى اشتركت معه في بنائه ورصعته بلآلئ الحب ، فلم يرحم أحد أحزانها ولم تجد الحائط الذي تستند إليه من بعده.. بل وجدت أظافر تتخلل كيانها المنهار .. أظافر تريد أن تنهش البقية الباقية من الكيان الذي رحل صاحبه.. ضمت ولديها وقررت الرحيل بهما بعيداً عن الطامعين .. لتزرع جذورا في أرضٍ أخرى إلى جوار قلوب تحبها وتغدق عليها حنانا دون غرض .
تتلحف بليل يكتنفه الصقيع.. تشرنقت داخل جسدها .. تبحث عن شيء كان هنا بين أحضانها، نبض بالحياة والدفء .. تشير إليها أصابع الظلام القاسية، إن ما تبحثين عنه لن يعود.. تشعر باختناق شديد.. أذابته بدمعات بللت وسادتها.. تتستر بالأحلام .. يتهادى عطره الأنيق يُعبق كيانها.. يسري في شرايين جسدها المُخدر بين النوم واليقظة.. يداعبها .. يطبب أحزانها .. وتراه شاخصاً عند قدميها قائلاً لها من عالمه الآخر: معذرة يا جميلتي.. أنا أعلم أنك قوية.. تركتكِ حينما شعرت بأنك ستتحملين.. قررت أن أتلاشى وأسكن بداخلك، لن ابتعد كثيرا.. سأكون الطيف الذي يظلل حياتك.
استيقظت من غفوتها.. تأرجحت بين الحزن والشوق، علقت صورة كبيرة له على الحائط، تسمرت أمامها لتراه مرة لحماً ودماً ينبض بالحياة.. ومرة صورة صامتة ميتة.. تتحجر الدموع في مقلتيها .. تناجيه وتسخر من أملها في عودته كثيراً.
جمعت ما تملك من تراث أيامهما الخوالي وصرته في قلبها، وانطلقت في الحياة تجاهد ، تبعث القوة في نفوس أولادها.. تغلق باب قلبها الحديدي على أسرارها، فلا سبيل لأحد ممن حولها لاختراقه.. فماضيها وحاضرها لها وحدها.
لم يمهلها القدر حتى تشعر بالأمان، بل تعثرت في صخرة المرض.. مد السرطان يده الخبيثة إلى أحد مفاتنها لينهشه ، خطف الخبيث البسمة العذراء من بين شفتيها.. وتسرب الخوف إلى قلبها.. تتوه في غيبوبة من الفكر !!
ماذا لو فقدت حياتها.. ما مصير ولديها؟؟ الموت على بعد أمتار منها، ليست مستعدة للموت الآن..
اتجهت إلى الله بالدعاء ليخفف عنها وينتزع الخبيث من جسدها ، ليس من أجلها.. فهى فقدت حياتها سابقاً... بل من أجل صغيريها.. كان شبح الموت يفتت قلبيهما الصغيرين.. يرعبهما ويجعلهما يتشبثان في ذيل أمهما الأكثر وجلاً منهما.
تدخل في دوامة العلاج القاسية .. يتشح الوجه الجميل بالصُفرة ، يلتف العود الممشوق بالهم، ترجو الانعتاق والتحرر من الكيماوي والإشعاع واقتلاع المرض من جذوره..
نهار كسيح يدب بقدميه الواهنة داخل قلبها المثقل بظلام المرض المُدمر..
ضوء خفيف يصيبها بالأمل.. يصحح الخلايا المتمردة.. يطرد أوجاعها.. اشتعل سراج الأمل الخامد بداخلها.. حفَّزتْ ذاكرتها المسكونة باليأس.. وحرضتها على النهوض لبناء ذاكرة جديدة من لبِنات قوة نبضها..
اضطر جسدها أن يحترم عزيمتها وشموخها.. أن يقاوم الموت الذي يُمارس عشق حصاد الأرواح.. أطلقت عصافير أفكارها التى سكت صوتها منذ أن صدمتها التقارير الطبية.. تبتكر لوناً جديدا من أغاني الحياة ..تعتلي سماء الغرفة البيضاء قناديل راقصة لتشعل نور روحها المطفأة..
تعود إليها ابتسامتها.. تقف مرة أخرى أمام صورته الكبيرة تَعِدهُ أن تُكمل المشوار الذي حَلُمَا به سويا.. وسقط بعضه في منتصف الطريق.
البلد
مصر

متابع

المتابِعون

أعلى