محمد بقوح

الميلاد
May 28, 1964 (العمر: 59)
نموذج من كتاباتك
نيتشه قارئا لسقراط

نطرح قضية العلاقة الفلسفية بين نيتشه، كفيلسوف ممارِس لفعل هذه القراءة، والفيلسوف سقراط، كموضوع إجرائي وبحثي لها، بكونها علاقة فلسفية تهمّ أساسا الجانب المتعلق بالموقف الفكري والفلسفي الذي أصاغه واتخذه ودافع عنه نيتشه ضدّ فلسفة سقراط الأخلاقية التي أعادت الاعتبار للإنسان، في زمن معرفي إغريقي ازدهرت فيه إلى أقصى حد الفلسفةُ الطبيعية ذات المنحى الوجودي، وساد فيه التفلسف السوفسطائي التعليمي.
فكيف قرأ نيتشه (1844- 1900) فلسفة سقراط (469 - 399 ق.م) ؟ أو بالأحرى، ما هي الآليات الفكرية والفلسفية التي قرأ بها نيتشه، كفيلسوف تنويري عقلاني ينتمي إلى العصر الذهبي للفكر الفلسفي الأوربي الحديث، النص الفلسفي السقراطي، كنص متميز ارتبط بلحظة تاريخية إغريقية بعيدة زمنيا، كانت وما تزال تبحث عن ذاتها الفكرية، وجهتها الفلسفية ببوصلة إدراكية معرفية وجدلية أربكت مجتمعها اليوناني وزمنها المتعب التقليديين ؟ هل الأمر هنا يتعلق بفعل نقدي فلسفي نيتشوي، يمارسه فيلسوف مشبع بالفكر النقدي والعلمي الفلسفي الثوري حتى النخاع، ضدّ قول فلسفي سقراطي مؤسس على تفكير مفهومي ونظري، أراد له صاحبه أن يكون مختلفا ومضادا لكل ما هو سائد ومهيمن، فكان له ذلك، بحيث لم يصل إلينا منه حتى مدونا ومكتوبا، باعتبار أن سقراط نفسه، حسب الدارسين لفلسفته ولشخصيته الفكرية، لم يكن يكتب فلسفته بنفسه وإنما تعرف عليه التاريخ الفلسفي، من خلال الكتابات الفلسفية الهامة التي كان ينجزها تلامذته، وكان أهمهم شأنا وعلى رأسهم طبعا مواطنه الفيلسوف أفلاطون في (محاورات كتاب الجمهورية).
لاشك إذن، أن ما يهمنا في هذا الموضوع ليس معرفة مضامين القراءة النقدية التي أنجزها فيلسوفنا الكبير نيتشه لفلسفة شيخ الفلاسفة سقراط، بالرغم من أهمية هذه المضامين، من ناحية جرأتها الفكرية، وحتى من حيث أهميتها الفلسفية الحضارية، ولكن أساسا، نحن منشغلون بمعرفة نوعية المنهج النقدي والفلسفي المتعدد الأبعاد والمركب معرفيا، الذي قارب وقرأ به نيتشه النص الفلسفي السقراطي. يعني الطريقة المنهجية المركبة من عدة تصورات معرفية، فيها ما هو فيزيولوجي، وفيها ما هو تاريخي، وما هو جينيالوجي، وكذلك لغوي وسيميائي.. إذن، نحن هنا بصدد منهج متعدد المرجعيات، ومركب المصادر والآليات والرؤى والأبعاد. منهج فلسفي شمولي يخترقه ما هو فكري عميق، خوّل لفيلسوفنا مقاربة البحث الفلسفي عامة، والقول الفلسفي السقراطي بصفة خاصة، من منظور فكري نقدي تفكيكي ومؤسس، أوصله إلى نتيجة رفضه لفلسفة شيخ الفلاسفة، من حيث أنها أدخلت التفكير الفلسفي عامة إلى النفق المظلم.. نفق عوالم الميتافيزيقا الغارقة في مثاليتها المُفارقة للواقع البشري، وبالتالي، أدت هذه الفلسفة إلى (موت الفلسفة)، بعدما كانت في الأمس القريب، مع الفلاسفة الطبيعيين، والذريين، والفيتاغوريين، والسوفسطائيين أيضا، فلسفة تنتعش بالحياة، وخارج هذا النفق الميتافيزيقي، منطلقة، حرة في التفكير التفلسفي المهتم بقضايا ما هو حسّي وطبيعي حول وجودهم البيئي والحيوي، غير مبال بقضية الفضائل والأخلاق والسعادة بعد الموت في العالم الآخر.. تلك القضايا التي شغلت سقراط وكبلته وألهته عن التأمل الفلسفي العملي الحرّ، والقريب من جمال الوجود.. وليس البحث في لغز الموجود، بتعبير هايدغر.
إنه الموقف الفلسفي السلبي، ذي النظرة السوداوية المحتفية بقيم الضعف والسقوط والهزيمة، في الحياة الأرضية الإغريقية الحية التي تكذّب دعوى سقراط. هذا الموقف المفارِق لتفلسف سقراط هو الذي جعل نيتشه يختار أن يكون ضدّ فلسفة سقراط الأخلاقية الضعيفة، باعتبارها فلسفة التعب الجسدي والقمع النفسي، حين أخضعت القول الفلسفي للمعرفة والأخلاق والإنسان. وبالتالي، صارت لها هذه الرؤية التشاؤمية، وحققت موقفها النظري والسلبي من وجود الفرد في الحياة. هذا الفرد المنعزل والمتمرد، في نفس الوقت، الذي يجب أن يبحث عن سعادته في العالم المثالي الحقيقي المفترَض، حسب سقراط، وبعده سيطور ويكرس هذه النظرة الفوقية والمفارِقة تلميذُه أفلاطون، والكثير من الفلاسفة الآخرين بعده، والذين ثبتوا أصولها بمسامير من ذهب..
في حين، تم النظر إلى العالم الأرضي المُحايِث كواقع (قبيح) حسي، مجرد ظاهر وقناع غير مرغوب فيه، وغير حقيقي، وكنسخة معدلة للعالم الحقيقي المثالي الأول، والمرغوب فيه .
لكن، ألم يكن نيتشه نفسه فيلسوفا غارقا في عالم أقصى المثل، عندما فكر فلسفيا مع زرادشته، في نوع آخر ومختلف وجديد من الإنسان، سماه بالإنسان الأعلى ؟؟ وبالتالي، فطبيعة هذا الإنسان القوي، ومسألة هذه الفكرة المطلقة، هي التي جعلت هايدغر يعلن عبر فلسفته بأن نيتشه يعتبر آخر الميتافيزيقيين في عالم الفلسفة، داعيا إلى فلسفة علمية نافعة، تتغذى بموجودات العلم وعناصر الطبيعة حول محيط الإنسان .
نتابع طرح السؤال: لماذا انتقد فيلسوف "إرادة القوة" فلسفة شيخ الفلاسفة سقراط ؟
نستحضر هنا جانبا مهما من طبيعة القول الفلسفي، المرتبط ضرورة بمفهوم التجاوز الفلسفي. لكن، ليس بمعنى إحداث القطيعة والانفصال التام، وإنما كشكل فكري وفلسفي مختار، يستوعب من لدن الفيلسوف، متمثلا النموذج الفلسفي السابق عليه، والمرحلي طبعا، من أجل نقد أسسه وتجاوز مخرجاته الفلسفية، كنتيجة حتمية لرغبة الفيلسوف الجديد أو البديل، في التموقع النوعي الجيد على أرضية فكرية فلسفية مختلفة ومتميزة، تحمل بصماته الفكرية، وملامح شخصيته الفلسفية. إننا هنا، نقترب من التعريف المهم الذي صاغه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، حين اقتنع، كتتويج لأبحاثه الفلسفية العديدة، في كتابه القيم: (ما هي الفلسفة ؟) بأن الفلسفة، لا يمكن أن تكون سوى التحقيق الفعلي للإبداعية في مجال المفاهيم الفلسفية. إذن، فالميل الفكري الجريء إلى تحقيق واقع الاختلاف، ودعم الإبداع الفلسفي المميز، لهو أمر مهم وأساسي، ولكن أيضا هو وضع بديهي، بالنسبة للفيلسوف الذي يريد أن يبدع فلسفيا، ويترك فلسفة نوعية وقوية يذكرها التاريخ بعده.
غير أن الإبداع في المجال الفلسفي، ليس متاحا للجميع، وفي المتناول، وبالأمر الهين دائما، سواء على مستوى الكتابة النصية الفلسفية، أو على مستوى الكتابة النقدية المفهومية، المرتبطة بالدرس والبحث الفلسفيين. فماذا الآن، عن هذه العلاقة الفلسفية النقدية بين نيتشه وسقراط كفيلسوفين يوجدان داخل نفس الدائرة الفلسفية الكبرى، رغم أنهما ينتميان إلى لحظات تاريخية مختلفة ومتباعدة في كل شيء، إلا أن ثمّة علاقات فكرية كثيرة، وتقاطعات فلسفية عديدة ومهمة مشتركة، تربط بين الفيلسوفين العقلانيين معا. سوف نبحث في أهم تجليات هذه التقاطعات الواضحة في فكرهما الفلسفي العقلاني، انطلاقا من شهادة نيتشه نفسه. فأتيح لسقراط أن يكون موضع نقد وبحث ودراسة. في المقابل، لم يتردد نيتشه، في دراسته وانتقاد فلسفة أستاذه، بل واضعا إياها في قفص الاتهام أمام التاريخ والإنسان، في إطار أبحاثه الشمولية، للمتن الفلسفي الإغريقي بصفة عامة.
بالنسبة لنيتشه، فشيخ الفلاسفة هو بمثابة نقطة انطلاق الفكر الحر "الحداثي" والمثالي، الذي سيعرف تاريخ الفلسفة فصوله الكبرى تباعا، وفصوله المفصلة لاحقا، مع العديد من الفلاسفة الآخرين (أفلاطون، أرسطو، ديكارت، سبينوزا، كانط، هيجل.. إلخ). هو أيضا فيلسوف "حداثي" متميز، بكون فلسفته المعرفية والأخلاقية، جاءت بأفكار جديدة ومختلفة عما كان سائدا، تحتفي أساسا بحرية الفرد وبغربته، وتدعم أرستقراطيته، مطالبة بتحرير فكر الإنسان المكبل بالفكر التقليدي الخرافي المحافظ، داعية تحريره مما هو سائد ومهيمن من معتقدات وتمثلات اجتماعية عقيمة صدئة، تقوم على الخضوع للحسّي والغرائزي الجسدي المتجاوَز- دائما حسب سقراط - أكثر مما تعمل عقلها المفكر، وتشغل وعيها النظري العميق في قضايا الحياة البشرية، مكتفية بالتفكير في ما هو روحي مفارِق (المسألة الدينية)، وعقلاني وإنساني في الإنسان (مسألة الوعي).
إذن فلسفة سقراط، كانت تبحث عن الجوهر، وتطارد الثبات، ويهمها المطلق، وتنشغل بما هو متعالي ومنزه، وتقول ب(المقدس)، خلافا لما هو موجود وقائم في البيئة الفلسفية لسقراط، ولزمنه الديونيسوسي الإغريقي الذي يمثل بالنسبة إليه نزعة (المدنّس).. تلك النزعة التي يجب أن تحارب بكل الوسائل حسب. في المقابل، نلاحظ فيه نفس المبدأ تقريبا، مع نيتشه المسلح بفلسفة "إرادة القوة: والذي دعا، كما أسلفنا إلى فلسفة متمردة أيضا، لكنها فلسفة تقوم على أساس فكري مُحايِث وليس مُفارق، ومختلف، ينطلق من فكر "قوة الذات" المتعالي (الإنسان الأعلى)، أي جوهر المطلق، الباحث عن العود الأبدي فيما وراء حجاب سماء الدنيا، هو ليس ثابتا، ولكن متحولا ومتحركا باستمرار، ودائري مكرور وصيروري إلى حد العبثية. نستحضر هنا قولة حكيمة لفيلسوف الصيرورة الإغريقي هيروقليطس (535 ق.م- 475 ق.م) الشبيهة إلى حد بعيد لدلالة مفهوم هذا العود الأبدي الذي يطرحه نيتشه. يقول: (نحن ننزل في النهر الواحد ولا ننزل فيه، فما من إنسان ينزل في النهر الواحد مرتين، فهو دائم التدفق والجريان).
إنها صيرورة الزمن التي لا تختلف كثيرا عن المفهوم النيتشوي المشار إليه. من هنا نجد احتفاء النص الفلسفي النيتشوي بمدى تراجيدية القول الفلسفي الإغريقي قبل المرحلة السقراطية ..
هكذا، تكون فلسفة سقراط، من منظور نيتشه، تقوم على أساس فكر تراجيدي، نظري مفهومي، تفاؤلي، يحتفي بالعاقلية المفرطة والوعي الذاتي، مقابل النازعية الجسدية، والشك المعرفي، كوضعية فكرية وفلسفية، كائنة عند اليونانيين القدامى. فسقراط، يعتبر أول من بحث في موضوع الحقيقة، متسلقا سلّم العقل التجريدي إلى أقصاه، نحو السماء (الخير والشر والفضيلة والسعادة). وكانت الحقيقة عنده مرتبطة بالأخلاق وبقيم الإنسان الروحية، الهادفة لمعرفة ذاته. إنها الحقيقة الفلسفية الأخلاقية الوحيدة التي يجب أن يبحث فيها، وتؤمّل وتعرف معرفة يقينية، وليس المساءلة عن أصل الكون والطبيعة والحجارة والنار ؟ وذلك باستخدام جملة من الآليات الفكرية والمنهجية، كالجدل والمنطق، والاستدلال، والتوليد، والبلاغة اللغوية، تحقيقا لإقناع متلقيه الذين هم في ازياد مستمر، والمكوّنون، في الغالب، من شباب أثينا المتعطش للفكر الحر المستنير، ممن كان يؤثر فيهم سقراط بأسلوبه الفلسفي الرصين، وبأفكاره الثورية المختلفة والجريئة. يقول (اعرف نفسك بنفسك). ويقول أيضا (لا أعرف سوى شيء واحد، هو أنني لا أعرف شيئا). وكأنني بسقراط يلمّح هنا، إلى ما كتبه هيغل في القرن التاسع عشر، بحيث قال هذا الأخير (أعمق ما في الذات هو الفكر)، وأيضا بما جاء في جمهورية أفلاطون (ينبغي التخلص من حمق الجسد).
ليس بالصدفة إذن، أن نجد بعض التشابه، وكثيرا من التقاطعات الفكرية بين القول الفلسفي عند نيتشه والتفلسف السقراطي القائم.. بل بينهما، وبين العديد من الفلاسفة المثاليين الذين هم من طينتهم الفلسفية، ذات المرجعية الفكرية الدينية المُفارِقة للواقع. أ فلا يدعونا هذا الاستعمال الأداتي للفكر الفلسفي، إلى القول مع الباحث المغربي محمد الشيخ في كتابه "نقد الحداثة في فكر نيتشه"، أن الفلسفة تعني هنا (لاهوتا مقنعا) ؟، وبالتالي، أ لم يسيء سقراط إلى الفلسفة عندما سلك طريق التفلسف، لنشر وتكريس منظورات ذاتية، وأفكار أخلاقية، ورؤى فكرية ومعرفية لا تمت بصلة بجوهر التفكير الفلسفي، بالمعني العلمي للكلمة، ذلك المعنى الذي كان سائدا في الفترة التاريخية السابقة عليه، مع الفلاسفة الطبيعيين والذريين مثلا ؟ ومن تمّ، أ لا يمكن اعتبار شيخ الفلاسفة سقراط،، هو الممهّد الأول، والمبشّر الميسر الأساسي للفكر المسيحي الذي تلا فلسفته لاحقا؟
بسبب كل هذه الدواعي، والأسئلة المعلقة المحيرة، والأخرى المؤجلة غير المعلنة، وقف نيتشه موقف الفيلسوف المضاد لفلسفة سقراط التأملية والنظرية والمعادية للفكر والسلوك التراجيديين السائدين.
لنستمع إلى صاحب "هكذا تكلم زراديشت" هذه المرة في كتابه "غسق الأوثان".. يقول: (أسعى جهدي كي أتمثل أي نوع من الحساسية الخصوصية استطاع أن يقود إلى مثل هذه المعادلة السقراطية : عقل = فضيلة = سعادة ، تلك المعادلة الأكثر غرابة مما يمكن أن يوجد من الغرابات، والتي تعارضها كل الغرائز الهيلينية القديمة على نحو خاص) ص 24. إذن، كلاهما يتكلم في النصين معا (نص نيتشه ونص سقراط) عن مسألة المعرفة باعتبارها القاعدة المحورية لفعل التفلسف، وإنتاج الأفكار والطروحات الفلسفية.
ينظر الفيلسوف سقراط إلى المعرفة باعتبارها الغاية القصوى لكل تفلسف حقيقي، لكن في إطار مبحث الأخلاق الضيق الذي ينظر إليه نيتشه، من منظور الشك، والعقل المادي العلمي، لأنه يعتقد أن الأخلاق كغريزة الانحطاط، هي من تعمل على تقويم وتأويل وصنع الإنسان، سواء لتبرير ضعفه أو لتفسير مدى قوته وجبروته. وفي أحيان أخرى يبدو لنا نيتشه يتحدث، مفكرا محللا ومفسرا مسألة القيم، كما لو كان أنثروبولوجيا، يفكك وينقب في عمق تربة تفاصيل الصفات الأخلاقية الملازمة دوما لهذا الإنسان. يقول في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" : (ليس هناك من الشعوب من يستطع أن يعيش من دون وضع نظام من القيم.. في الحقيقة إن الناس هم الذين أعطوا أنفسهم كل خيرهم وشره. والحق أنهم لم يأخذوه كما لم يجدوه أو سمعوه صوتا هبط إليهم من السماء).
إذا كان سقراط مؤمنا أشد الإيمان بالوجود الفعلي والحقيقي للقيم والمبادئ والأخلاق، في الحياة الأخرى، بعد الموت طبعا..، لهذا لم يقاوم.. ولم يرفض حكم الإعدام الذي دبر له، ونفذته في حقه وعليه محكمة أثينا، فيما بعد، خصوصا أنه أتيح له أن يدافع عن براءة نفسه من التهمة التي لفقت إليه، وكذلك أتيح له أن يخرج بالغرامة، أو أن يهرب..، فإن نيتشه من جانبه، متشبث كل التشبث، باقتناعه القوي بعلاقة القيم والأخلاق بحياة الإنسان في هذه الأرض الحافلة بالمتغيرات.
من هنا، ميز نيتشه بين أخلاق السادة وأخلاق العبيد. لكن، رغم الاختلاف الذي يبديه التصور الأولي، في كلمات نيتشه المضادة، في النص أعلاه، إلا أننا نجده بدوره، يلوّح، في نفس النص، بمفهوم المعرفة العقلانية والنفسية، في إطار إشارته الواضحة إلى ثنائية الموت والحياة، و إلى ثنائية القوة والضعف. بمعنى أن مسألة القيم عنده، هي من إنتاج واقع الحياة الأرضية، ومن تقويم ووضع شَرطي وظرفي مختار متفق عليه، علنا أو ضمنيا. أي أنها مسألة منظورية بشرية - بتعبير نيتشه - وليست مسألة تتعلق بمصدر أو أصل غيبي، هو ما وراء الطبيعة.
إذن، سقراط يتسلح بالعقل، كوسيلة لغاية مقصودة.. هي مواجهة مصير الإنسان بالمعرفة النظرية المبدئية المفهومية، جاعلا القيم الأخلاقية المنزهة، وسعادة الفرد في العالم الآخر فوق كل اعتبار، وبالتالي، نظر إليهما بصفتهما محورا، وجوهرا الحياة الحقيقية، وإنسانية الإنسان.. خاصة أنه جعلها ضدّ المعرفة الفلسفية الحسّية، والأخلاقية الغريزية العادية والمسيطرة، كما تداولت وهيمنت على الحياة الاجتماعية والسياسية في مجتمعه الأثيني الإغريقي. إن التصور الفلسفي السقراطي الأخلاقي المتعالي، حسب نيتشه، كان يعكس بحق، بداية ضعف مرعب، وتناقضات مفارقة كبيرة، أخذت تشمل كل الحياة المجتمعية الإغريقية، حيث صار هذا التصور مرتبطا بصراعه الفعلي ضدّ تصور آخر مضاد، فكري وسياسي وفلسفي سائد ومُهيمن.. إنه الفكر الفلسفي الديموقراطي للفلاسفة السوفسطائيين.
في المقابل، كان نيتشه يتسلح، بمعول النقد العقلاني العلمي الهدام، لفضح وتعرية والكشف الحفري عن أبعاد اللعبة الفكرية والفلسفية السقراطية أعلاه (مسألة المعرفة والأخلاق)، باعتبارها لعبة / معادلة أخلاقية، ارتبطت أساسا بالشرط الواقعي الاجتماعي والسياسي للحقل المجتمعي الإغريقي الهليني التقليدي البسيط. بمعنى، أن فلسفة سقراط الأخلاقية التبريرية، والتي استندت إلى العقل، كواجهة براقة لها، لم تكن سوى نتيجة حتمية لصراع تاريخي حضاري، فكري وسياسي، وديني قيمي عميق، عاشه المجتمع الإغريقي المدني والمتفتح، في زمن سقراط المتعب الذي اختار لنفسه الدفاع عن الفكر الفلسفي الأرستقراطي النقيض الناشئ والجديد في شكله، لمواجهة الفكر السياسي والفلسفي السوفسطائي، والديمقراطي السائد، والذي كان التفلسف عنده يعني خدمة الحياة العملية، والنفعية التربوية التعليمية للمواطن اللاثيني والإغريقي عامة بامتياز.
بالإضافة إلى أن النظام السياسي الحاكم، هو نظام ديمقراطي.. حيث كانت الحياة الاقتصادية والسياسية في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، حياة تعرف نوعا من الصراع الحاد بين الشعب والنبلاء، وكذلك تعرف تراجع العلم والنظرة العلمية، من حقل التناول الفلسفي وفعل التفلسف لمعناه العلمي والنقدي الحر. بحيث ساد التوتر، وتفاقمت الأزمة والتناقضات التي بدأت تطفو على سطح العديد من المستويات في الحياة الإغريقية، سواء على مستوى تسيير الشأن العام الإغريقي الوطني، أو على المستوى الديني والفكري الفلسفي. فحقق هذا الصراع مستواه الشرس، بين قوى التفكير التقليدي التفلسفي المنغلق بعمقه الأخلاقي (يمثله سقراط)، وبين قوى التفكير التفلسفي المتحرر والمتفتح بعمقه التعليمي المادي والعملي (يمثله السوفسطائيون). وقد كان من أهم رواد هذا الفكر التفلسفي الأخير، نذكر: جورجياس وبرويقوس وهيبياس.
يقول نيتشه في كتابه "الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي": (إن الفلسفة اليونانية المتأخرة إنما هي عبرت عن انحطاط النازع اليوناني).
هناك عوامل أخرى كثيرة، لا تزال خفية على الدارسين، تجعل دوما نيتشه، هذا الفيلسوف العقلاني المثير للجدل، والذي لم يختلف الفلاسفة والدارسون والباحثون في شأن إبداعه الفلسفي، وقراءاته الفلسفية، خاصة للمتن الفلسفي القديم، كما اختلفوا حول هذا الفيلسوف الثائر، عندما يتفلسف منطلقا، ومحررا ومفكرا في قضايا عصره، يعود ضرورة، لاستحضار شيخ الفلاسفة سقراط،، متحدثا عن شخصه الغريب الأطوار، وعن فلسفته القلقة، بطريقة فكرية ونقدية، وأحيانا يتحدث عنها بأسلوبه الصارم والساخر في نفس الآن. يقول عن هذه العلاقة الفلسفية، الموجودة بينه وبين سقراط، في كتابه "إرادة القوة ": (إنني أعترف بأن سقراط قريب مني، إلى الحد الذي يفرض عليّ مواجهته على الدوام).
إذن، رغم أن نيتشه يقرّ بكون سقراط قريب منه، وهذا يدل على أن الفكر الفلسفي لهذا الأخير لا يزال يفعل فيه إيجابا، ويضطره مستحضرا إياه في كل مناسبة ممكنة، لمواجهته ومناقشة آرائه، ومجادلة مواقفه الفكرية والفلسفية. هكذا يبدو لنا التحاور، والتقارب والتفاعل الفكري الفلسفي بين النصوص الفكرية والأطروحات الفلسفية، مهما كانت البيئة المجتمعية التي أنجبتها، هو من صميم الأمور البديهية، حين تكون تلك النصوص في مستوى الإبداعية الخاصة، والفعالية الفلسفية المطلوبة. يعني، تنتفي هنا مسألة الزمنية، ويتراجع التقادم التاريخي الذي يمكن أن يؤثر سلبا على النص الفلسفي الرديء، فارضا عليه إخضاعه لما هو زمني آن ولحظي، وبالتالي، غير قادر على الامتداد الفلسفي، واختراق سمك فعل الزمن القاسي، بالمفهوم التاريخي. والعكس صحيح بالنسبة للنص الفلسفي المبدَع الأول المؤسس هنا لما هو حضاري نافع للوجود البشري، حاضرا ومستقبلا.
من خلال كلام نيتشه، فعلاقته الفلسفية بسقراط، رغم ارتباطها الوثيق بطابع القرب، كما ذكرنا، إلا أنها تقوم على قاعدة المواجهة والاختلاف والمناقشة، والمحاورة والانفتاح، في إطار الصراع الفكري الإيجابي الجاد. لعل هذا يعني أن نيتشه، لم يكن يقرأ النص الفلسفي السقراطي، خاصة، والمتن الفلسفي الإغريقي بصفة عامة، قراءة بريئة أو موجهة، من أجل تدميره ونسفه فلسفيا، أو نسخه عقديا، ولكن، من أجل نقده نقدا جذريا، وإعادة كتابته بل إحيائه، بجعله يفكر معه وضده، محللا ومقارنا إياه مع فلسفته، وطروحاته الفلسفية المركبة والعميقة، تحقيقا لهدف تجاوز أستاذه فلسفيا، وليس زمنيا.. وهي العملية المحورية الأساسية والصعبة التي تدل على مدى إبداعية المجهود الفلسفي المتميز لأي فيلسوف، مهما كانت البيئة الفلسفية التي عاش ضمن مقتضيات مجتمعها.
إن هذه الإشكالات الفكرية بالأساس، وتلك الأسئلة الفلسفية الشائكة، وغيرها من الأسئلة الأخرى، التي يمكن أن يطرحها القارئ، في إطار مسألة التفلسف والقراءة الفلسفية، تجعلنا نستحضر ظاهرة منهجية صحية هامة، هي حوار وتقاطع وتفاعل الأفكار والرؤى، والقضايا والمسائل الفلسفية، مخترقة بيئتها الزمنية، بتعبير جيل دولوز، ومتجاوزة لحظتها التاريخية والمكانية، بحثا عن تحقيق التلاقي، والتفاعل والتلاقح الفلسفي، ليس من أجل الترابط التطابقي، والتزاوج النسخي الفلسفي، ولكن بهدف الارتقاء بالفعل الفلسفي، وتكريس الأحسن، وإنجاح طريقة الحوار الفكري الإيجابي، بالصراع المعرفي المنتج العميق، والجدال الفلسفي العلمي الفعال بين النصوص والكتابات الفلسفية، ثم فرز الاختلافات الفكرية، ودعم المناقشات المعرفية والعلمية، لضبط المفاهيم الفلسفية، إن وجدت، تحقيقا للبحث الفلسفي المنهجي العلمي الواقعي، وأيضا، وصولا إلى تمثل فلسفي جيد، لمختلف التقاطعات، والاختلافات والتجديدات الفلسفية التي عرفتها إشكالية الفلسفة، في علاقتها النسقية بالفعل الشرطي الاجتماعي، والظرف الإنساني التفلسفي، سواء من الناحية التاريخية الحضارية، أو من الناحية النقدية والمفهومية، والمنهجية على مستوى الإبداعية البحثية.
البلد
المغرب
أعلى