الزهرة رميج - لغة الورد

يشكل المقهى، الفضاء الأثير لدى أدبائنا - كتاب القصة بالأخص- بمختلف أجيالهم.حيث لا تكاد تخلو مجموعة من مجاميعهم القصصية، من تناول هذا الفضاء وما يحبل به من وقائع ونزوات.
هناك من يعتبر المقهى عالمه الأدبي، بحيث أنه لا يستطيع الكتابة عن شيء آخر، خارج هذا العالم بالذات.
نلتقي هنا إذن، مع المقهى في مختلف تلاوينها ومسمياتها: الحانة، المقشدة، الكافتريا، المثلجات، المطعم، البوفيت، النادي الليلي..من هذه الفضاءات، ما هو وضيع، ومنها ما هو باذخ، أو حسب تعبير أحد الأدباء: " مكان نظيف وجيد الإضاءة". من هذه الفضاءات كذلك، ما هو محترم، ومنها ما يشكل بؤرة فساد.
كل ذلك يجسد غنى وثراء لذخيرة السرد المغربي.
***
ألقت بائعة الورد نظرة قلقة على الشرفة الشاسعة. راحت عيناها المتعبتان تتسعان وهما تتنقلان بين الدوائر المظلمة وتلك التي تغمرها الأضواء الخافتة. ارتسمت علامات الخيبة على محياها. لا أمل! المقهى شبه خال! لا يوجد سوى بعض الرجال المنصرفين كلية، إلى كؤوسهم وثرثرتهم، ولا أثر لأية امرأة! اجتاحتها حالة حزن ممزوج بالغضب، جعلتها تتسمر في مكانها. لماذا غاب العشاق هذا المساء؟ تبا لهذا البرد القارس! لا شك أنه السبب!كأنه يكن لي ضغينة ما، فيريد أن ينتقم مني شر انتقام!

أرادت أن تعود أدراجها، لكن رغبتها القوية في بيع بعض الورود، جعلتها لا تفقد الأمل. من يدري؟ قد يفكر أحد هؤلاء الرجال في شراء وردة يقدمها لزوجته بعد عودته إلى البيت. تخيلت سيناريوهات عديدة، قد تصادف هذه الليلة، حدثا سعيدا يكون عيد ميلاد زوجته، أو ذكرى زواجه من حبيبته، أو من يدري؟ قد يكون جاء إلى هذا المقهى، هربا من الجو المشحون داخل البيت بعد خصام عنيف مع زوجته، ولعل رؤية الورد تلهمه فكرة مصالحتها، بعدما هدأت أعصابه الآن، وراقت نفسه! عندئذ، أكون قد تسببت في فعل خير أجازى عليه جزاء مضاعفا، في الدنيا وفي الآخرة!
ابتسمت للفكرة. أحست بأساريرها تنفرج، وبوطأة الصدمة تخف قليلا.
تقدمت في اتجاه الموائد حيث الرجال متناثرون، وهي تسعل من حين لآخر. لكن أحدا منهم، لم يول وجودها أي اهتمام، ولم يكلف نفسه عناء إلقاء ولو نظرة خاطفة، على باقة الورد التي تحملها! " اللعنة عليهم!أكيد أنهم جاؤوا إلى هنا، هربا من زوجاتهم وحبا في ذلك الشراب الكريه، لا حبا في البحر أو الورد! "
انكمش قلبها الواهن. لعنت المرض الذي أقعدها طيلة اليوم، وجعلها تتأخر عن موعدها المعتاد. لو جاءت قبل الغروب، لوجدت ما يكفي من العشاق لشراء كل الورود كما يحدث غالبا. أما الآن، وقد غابت الشمس، وهبت ريح المساء، وذهب العشاق، فمن سيشتري هذه الباقة؟ تذكرت أولادها الصغار، فاغرورقت عيناها بالدموع. رفعت رأسها إلى السماء وهي تردد بداخلها:
" إلهي، هبني ولو حبيبين! أنت تعلم أن الحب، وسيلتي لأكل الخبز أنا وأولادي. بدونه نموت جوعا! "
كانت وهي تناجي الله، تتقدم في اتجاه أقصى الشرفة المظلمة تدفعها رغبة قوية لا تقاوم في عدم الاستسلام لليأس. فهي تعرف أن بعض العشاق ينزوون أحيانا، في الركن القصي بعيدا عن الأعين المتلصصة، كما أن حدسها نادرا ما كذب عليها! وهي تتقدم بخطوات بطيئة، سمعت ما يشبه الهمس. انتفض قلبها. كأنه همس امرأة غارقة في الحب! ألقت من جديد، نظرة شاملة على الشرفة. لا شيء غير الكراسي الفارغة! تسمرت في مكانها. هل ما سمعته حقيقة أم خيال؟ لعل رغبتها في العثور على عشيقين جعلتها تتوهم وجودهما!أرادت أن تعود أدراجها، غير أن تلك القوة الخفية ظلت تدفعها إلى الأمام. مرت الدقائق بطيئة وثقيلة قبل أن تسمع نفس الصوت. تتبعت مصدره متجهة نحو آخر نقطة في الشرفة تطل مباشرة على البحر. رقص قلبها من شدة الفرح، إذ رأت طيفين جامدين. حمدت الله الذي استجاب لدعائها، وبعث لها بهذه الهدية الثمينة! فهذان بدون شك، عشيقان من النوع الذي لا تجود به الظروف إلا نادرا؛ إذ ما الذي يجعلهما يبتعدان ويختليان ببعضهما متحملين رطوبة هذا المساء الخريفي، إن لم تكن حرارة الحب ولهيب اللوعة؟ اللهم أكثر من العشاق فوق الأرض!






الزهرة رميج

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى