عبد القادر وساط - فاليوم أصبر للزمان... ( صفحات مختارة من كتاب " إتحاف الخلان ")

عن شيخنا أبي الفضل النجداني ، قال :
شهدتُ مجلسَ الطاغية ، و عنده الوزراء و الشعراء و الكتاب ، فتذاكرنا حول ما يصيب الإنسانَ من أعدائه و ما ينبغي أن يتحلى به من الصبر ، فتمثل الطاغية بقول الشاعر :
و أصابَني قومٌ و كنتُ أصيبهمْ = فاليوم أصبرُ للزمان و أعرفُ
ثم إنه التفتَ إلى وزير الشعر، الشيخ أبي عثمان الجهمي، الملقب بنسيم الصبا ، و سأله عن قائل هذا البيت ، فأجابه الشيخ :
- البيت ، يا مولانا المستبد، لأعشى همدان ، عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث بن نظام .
قال الطاغية :
- نعم ... و أنتم تعرفون كيف كانت نهاية هذا الشاعر الفارس الفقيه ، فقد جيء به أسيراً إلى الحجاج بن يوسف الثقفي ، فأمرَ بضرب عنقه ...
قال شيخنا أبو الفضل :
إثر ذلك سكتَ الطاغية ، ثم طفق يحدق في الحاضرين ، قبل أن يخاطبهم قائلاً :
- يا شعراء نجدان و كتابها الأفاضل ، إنكم تمدحونني بالظلم و الجور و بما جُبلتُ عليه من طغيان و استبداد . و مع ذلك فإنكم تعرفون أني لا أبلغ شأو الأقدمين في هذا المضمار. و إلا فأخبروني ، رعاكم الله ، هل سبق لي أن صنعت بأحدكم ما صنعه الحجاج بأعشى همدان ؟ أو ما صنعه والي مكة ، محمد بن هشام ، بالشاعر العَرْجي، حفيد عثمان بن عفان، حين قيده وعذبه وتركه في الحبس تسع سنوات، فلم يخرج منه إلا جثة هامدة ؟
و هل دفنتُ أحدكم حيا ، كما فعل النعمان بالشاعرالمنخل اليشكري، و كما فعل أبو جعفر المنصور بالشاعر الزنجي الظريف سُديف ، و كما فعل الوليد بن عبدالملك بالشاعر وضاح اليمن ؟
و هل عاملتُ أحدكم معاملة َ والي العراق ، يوسف بن عمر الثقفي ، للشاعر الكُمَيْت بن زيد الأسدي، الذي كان معلما للصبيان في الكوفة ؟ ألم يأمر الحرسَ بقتله ، وهو واقف ينشده بعض أشعاره ؟
و هل صنعتُ بأحدكم ما صنعه الخليفة العباسي المهدي بالشاعر الضرير بشار بن برد ، حين قتله ضربا بالسياط ؟ أو بالشاعر صالح بن عبدالقدوس ، عندما أومأ هذا الخليفة الظالم إلى سيافه فشطره بالسيف نصفين ؟
أو ما صنعه والي البصرة بابن المقفع، إذْ قتلهُ قتلة شنيعة، بأمر من الخليفة العباسي المنصور ؟
أو ما صنعه الخليفة العباسي المأمون بالشاعر الضرير علي بن جبلة - الملقب بالعَكَوَّك - حين أمرَ بقطع لسانه ثم بقتله ؟
أو ما صنعه الخليفة المتوكل بابن السّكّيت ، لمّا أمرَ بسَلّ لسانه ثم بقتله !
أو ما صنعه الخليفة الراضي بالخطاط ابن مقلة، حين أمر بتعذيبه ثم بقطع يده ثم بقطع لسانه ، فلما مات في السجن نُبش قبره و أعيد دفنه ثلاث مرات !
أو ما صنعه أبو العباس السفاح ، قبل ذلك ، بعبدالحميد الكاتب، عندما أمرَ بإعدامه ، بعد أن أنزل به ألوانا من العذاب ؟
أو ما صنعه الخليفة المقتدر بالحلاج ؟
أو ما صنعه صلاح الدين الأيوبي بالسهروردي ؟
فيا شعراء نجدان و كتابها الأفاضل، لا تمدحوني بعد اليوم بما ليس فيّ من ظلم وجبروت ، فإنما أنا مبتدئ في هذا المضمار، و كل ما أحسن القيام به هو تسييركم بين حين و آخر إلى الكثيب ، حيث تقضون أوقاتا طيبة في القيود ، ثم تعودون فأستقبلكم في داري العامرة هذه ، متمثلا بقول الكميت بن معروف :
لئنْ تكُ قد ضاقت عليكم بيوتكمْ = لَيَعْلمُ ربي أنّ بيتيَ واسعُ
قال الشيخ أبو الفضل :
ولم يكد الطاغية ينتهي من كلامه هذا حتى التفت إلى الوزير المنتدب لدى وزير الشعر، المكلف بالضرورة الشعرية ، الشيخ أبي الحسين العسقلاني ، الملقب بظل الحَجَر ، و قال له :
- ما تقول في بيت الكميت بن معروف هذا أيها الشيخ ؟
فأجابه ظل الحجر :
-لقد جزمَ بلئن ، يا مولانا المستبد ، و زاد لاماً في ( لَيَعْلم ) مع أنه توهمَ حذف لام القسم ، و كان عليه ألا يزيد اللام ، لأن الجواب ليس للقسَم .
قال الطاغية :
- أحسنتَ و أفدتَ أيها الشيخ . و اعلم أني قررتُ الآن أن تصير لك وزارة مستقلة للضرورة الشعرية ، و ألا تبقى مجرد وزير منتدب .
قال الشيخ أبو الفضل النجداني :
فكان ذلك المجلس و الله أغرب ما شهدتُه من مجالس الطاغية !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى