عباس محمود العقاد - روح اليابان..

جاءني الخطاب الآتي من الأستاذ (محمود محمد الحبيب) المعلم بمدرسة المربد بعشار البصرة قال فيه بعد ثناء نشكره عليه: (... نقرأ الشيء الكثير من الأدب الإنكليزي، وأكثر منه من الأدب الفرنسي، ونطالع الأدب الأمريكي والألماني واليوناني؛ ثم جاءت الحرب العالمية الثانية فكشفت لنا القناع عن الأدب الواقعي الروسي خاصة في الأقاصيص. كذلك لنا نظرات في الأدب الصيني والهندي طالعناه في كثير من الكتب المعربة؛ ولكن شيئاً واحداً هو الذي لم يحظ من أدبائنا بالعناية. ذلكم هو الأدب الياباني. وهذا ما أردت من سيدي أن يلقى عليه شيئاً من أنواره ليكشف لنا مجاهله ومراميه. . . وقد عرفنا بعض فلاسفة الصين، فمن يقود الحركة الفلسفية في اليابان؟) إلى أسئلة من هذا القبيل تتلخص في السؤال عن (روح اليابان) كما تتمثل في عالم التفكير والإبداع الأدبي والفنون.

ومما هو غني عن الشرح أن أمة كبيرة عريقة التاريخ كالأمة اليابانية لا تخلو من أدب وفن وفلسفة على نمط من الأنماط

ولكن الأستاذ الحبيب على صواب حين يقول إن الآداب اليابانية لم تظفر من الغربيين ولا من العرب بالعناية التي ظفرت بها آداب الصين أو الهند القديمة. ويبدو لنا أن السر في هذا يرجع إلى المنافسة السياسية أو الحربية بين اليابان والولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وفرنسا على الخصوص. فإن الأمريكيين والإنجليز والفرنسيين لم ينظروا إلى الصين والهند نظراتهم إلى منافسين يهددونهم في ميادين التجارة والاستعمار، ولكنهم نظروا هذه النظرة إلى اليابانيين، فكان لهذه المنافسة شأن في الجفاء الذي قوبلت به آداب اليابان بين الناطقين باللغتين الإنجليزية والفرنسية ومن يعتمدون على هاتين اللغتين في الاطلاع على الآداب العالمية.

وقد ظفرت الصين والهند بالعناية الكبرى من مترجمي الآداب الشرقية لسبب آخر غير هذه المنافسة الاستعمارية، وهو أصالة الآداب الصينية والهندية وغلبة الاقتباس على الآداب اليابانية. فإن الهند أولا والصين ثانياً هما مرجع الثقافة الأولى التي عول عليه قبل نهضتهم الأخيرة منذ أواخر القرن الماضي، فلما نهضوا نهضتهم تلك في العصر الحديث كانت ثقافتهم نسخة مصحفة من الثقافة الأوربية أو الأمريكية؛ فلم يحفل بها الأوربيون والأمريكيون لأنهم يطلبون الغرائب ولا يحفلون كثيراً بنقل الآثار الفنية التي تشبه ما تعودوه وألفوه.

وقد حال بين الأمة اليابانية وبين تسجيل مأثوراتها الشعرية والنثرية أنها لم تعرف الكتابة قبل القرن الرابع للميلاد، ولم يكن شعراؤها وأدباؤها من جمهرة الشعب ولا من أوساط الناس في أكثر الأحوال، بل كانوا من الأمراء والكهان والأساتذة الذين يقرضون الشعر كما يقرضه المترفون في أوقات الفراغ.

على أن هذا كله لم يمنع العبقرية اليابانية أن تسلك طريقها إلى اللغات الأوربية، فتجلت تلك العبقرية في نمطين من الشعر تعلو فيهما الصبغة القومية على كل صبغة، وهما مقطوعات (الهاكو) ومنظومات الوقائع الحماسية التي وضعوها قديما في أسلوب الروايات التمثيلية.

أما مقطوعات (الهاكو) فهي أشبه الشعر بما طبع عليه اليابانيون من الدقة والأناقة، وهي مقطوعات لا تتجاوز الواحدة منها بيتين أو شطرين. ومن أمثلتها التي نشرناها في بعض مقالاتنا بيت يقول فيه الشاعر وقد نظر إلى شجرة: (ها قد سقطت هنالك زهرة كلا إنها فراشة!) وبيتان يقول فيهما الشاعر في حقائق الحياة وأوهامها: (ما دمت أعلم أن الوقائع التي نشهدها ليست هي كل اليقين، فمن أين لي أن أحلام المنام ليست سوى أحلام؟).

وكل هذا الشعر على هذا النحو من الدقة التي تتلألأ في ألفاظها الوجيزة كما يتلألأ الفص النفيس في الخاتم الفريد. وأكثر ما ينظمونه في الوصف والحكمة على هذا المثال.

أما شعر الحماسة في الروايات التمثيلية أو القصائد المطولة فهو من سليقة اليابان التي استقلوا بها عن المقتبسات الصينية، لأن أهل الصين لا يقدسون المجد العسكري كما يقدسه جيرانهم الشرقيون

وأشهر شعرائهم فيه (شكامتسو) الذي يلقب بشكسبير اليابان. وقد ترجمه إلى الإنجليزية أديب ياباني معاصر هو الأستاذ اساتارو مياموري أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة طوكيو، وقد له تقديماً حسناً يغني بعض الغناء عن المطولات في التعريف بهذا الفن الخاص من فنون بلاده.

ومهما يقل القائلون عن غلبة الاقتباس على الفنون اليابانية فمما لا شك فيه أن هذه الأمة مطبوعة على ذوق الجمال الأنيق والإعجاب بمحاسن الطبيعة. وقد شاءت لهم هذه الطبيعة أن يتفرغوا للأناقة وحدها بين أفانين الحسن والملاحة. فكانت الأناقة أيضاً هي السمة الغالبة على فن العمارة في جزائرهم البركانية، لأنهم قد استغنوا عن فخامة البناء بالأكواخ الصغيرة والجواسق المنقمة، فاتفقت لهم أسباب الأناقة في جميع الفنون.

ولا يخفي أن الأناقة تكون مع الاقتباس كما تكون مع الاختراع فتأنق اليابانيون فيما اقتبسوه كما تأنقوا فيما ابتدعوه.

إلا أنهم محافظون تقليديون في عاداتهم ومشاربهم قبل كل شيء

وآية هذه المحافظة التي تغني عن إطالة البحث فيما عداها أنهم لا يزالون يعبدون الملوك، ولا تزال أسرة المالكين المعبودين فيهم هي الأسرة التي ملكتهم وحلت بينهم محل الأرباب منذ عشرات القرون.

أما الفلسفة فهي كما يعلم القراء على اقتران دائم بالعقائد الدينية، ولا سيما فلسفة البحث فيما وراء الطبيعة.

وقد أخذ اليابانيون عقائدهم من البوذية الصينية، وأخذوا عن أهل الصين كل تصرف في هذه العقائد، سواء منها عقائد العبادات وعقائد السلوك.

ونشأ بينهم قديما حكماء على نهج الحكماء الصينيين، محور حكمتهم الوصايا السياسية وقواعد العرف المرعي في المعيشة اليومية. وقل بين حكمائهم من توسع فيما بعد الطبيعة وتابع النساك البوذيين في التوجه إلى الحقائق المجردة والإعراض عن الأوهام الدنيوية؛ لأن اليابانيين دنيويون بالسليقة لا يسيغون فلسفة التجرد وإنكار الحياة.

لا جرم لم تكن لليابانيين إذن فلسفة مستقلة فيما وراء الطبيعة، ولم ينبغ بينهم الفلاسفة كما نبغ الشعراء الغنائيون والحماسيون ومهندسو البناء ومنسقوا الحدائق ومنازه الجبال.

وقد ظلوا كذلك إلى القرن الماضي الذي ترجموا فيه المذاهب الفلسفية عن الغربيين، فاستبدلوا تقليداً بتقليد، ولم ينجبوا بعد فيلسوفا يبدع لليابان مذهباً لا يدين في جوهره ولبابه لأحد من فلاسفة الأوربيين والأمريكيين. وربما كان أروج الفلاسفة بينهم سبنسر ووليام جيمس وكارل ماركس ونيتشه، أو أقربهم إلى مذهب العمل والكفاح.

فالروح الياباني كما يتراءى في ثقافته وفنونه يتلخص في المحافظة والاقتباس وإثبات السليقة اليابانية بعد ذلك بالأناقة والحركة والنزعة العملية، أو يتلخص في كلمة واحدة هي (الدقة) التي تبدو في الطبيعة والصناعة، وتبدو في الأبدان كما تبدو في الأذواق والأذهان.

وليس هذا التعريف على كل حال بالتعريف الذي يحيط بموضوعه، ولكنه موضوع لا يحاط به في مقال، وربما كان بهذا القدر مفيداً على الأسلوب الياباني الذي أشرنا إليه.

عباس محمود العقاد


مجلة الرسالة - العدد 721
بتاريخ: 28 - 04 - 1947

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى