غادة الخولي - باب اللوق

أخذت لحظات أتأمله فيها خلسة قبل أن ينتبه لوجودي. كان مثل وطن، كلما غبت عنه وعدت، أسرتك ألفته، وفاجأتك محبتك له! راقبته وهو شارد يدخن بأريحية. اجتاحتني مشاعر شتى كتلك التي عشتها مع كل خطوة سرتها في طريقي لهنا. خطوت إلى مقهى سوق الحميدية حيث انتظرني. رفع رأسه فرآني، فضحك. كان جميلاً وأنيقًا، تملكتني نشوة سرية لأنه تهندم جيدًا لموعده معي؛ ندمت في هذه اللحظة على أنني لم أنجب طفلاً من هذا الرجل ذي الضحكة البهيجة. نهض ليستقبلني، أخذ كفي بين يديه وقبلها. لطالما فعل ذلك عندما كنا معًا.

—أهذا يليق بامرأة طلقتها منذ ثلاث سنوات؟!

—هذا يليق بامرأةٍ أحببتها ثلث عمري.

—كنت تفعل هذا بعد كل خلاف.. دعني أكن أكثر دقة.. بعد كل خيانة؟

—سهيلة! بحقك! لم أكن خائنًا.. كنت فقط أعشق البدايات. وبعد كل بداية..

—خيانة

—كنت أعود أحبك أكثر.

ها نحن ذا، عدنا كأنا لم نرحل أبداً. مشاعري الجياشة تجاه ميدان باب اللوق اختلطت بمشاعري المضطربة تجاه “علي”. غزتني بهجة النهار مع تباشير الشتاء ولمسة الهواء البارد دون قسوة ورائحة القهوة المحوجة فانتشيت. كنت أخشى لقاءنا، وهاأنذا أتماهي مع حكاياته عما فعله في غيابي، كمراهقة في موعدها الأول.

تلقيت منه ما جئت اليوم لاستلامه. فتحت الحقيبة الصغيرة.. كتب بإهداءات نادرة، أحدها لمحمود درويش وآخر بتوقيع بهاء طاهر! خاتم فضي عتيق! أين كانت هذه الأشياء؟ لِم لَم أحملها معي عندما رحلت؟ إينيسيال ذهبي! لم أميزه. ليس لي. رددته له وأنا أعلق:
عليك أن ترده إلى صاحبته.

—لا هذا جديد. إشتريته لكِ. لم أشتري لكِ أي شيء ذهبي طيلة زواجنا.

أمام نظرتي المتشككة أقسم لي أن هذه هي الحقيقة. شكرته مطولاً، فوسط الأشياء كانت مجموعة أوراق خططتها لتكون روايتي الأولى وعندما فقدتها أحبطت وأقلعت عن الفكرة.

—سألني إن كنت قد ارتبطت بآخر. قلت له أنني أحب البدايات أيضًا لكنني أحسب حساب النهايات. لِم لَم يتزوج هو؟

—سواكِ!!! أحب المرور العابر لكنني لم أتصور أن أقضي حياتي مع سواكِ.

—لا عمل ثابت ولا امرأة ثابتة. لم تتغير.

—كان لكِ أن تلومينني لو تغيرت! (يصمت قليلاً ثم يسألني) أما عدتِ تحبينني ولو قليلاً؟

—أحبك.. بقدر حبي لهذا البلد. أحبه، لكن لم يعد بوسعي البقاء هنا.

نصمت. أقول أنني يجب أن أمضي فطيارتي تقلع بعد ساعات. يطلب مني أن نتمشى قليلاً. نتجه نحو ميدان باب اللوق. يمسك بيدي ويطرق بينما نمر على شوارع شهدت بدايات حبنا الرتيبة اللطيفة. أحب أن أشعربكفي في حضن يده لكنني لا أشعر بالأمان. كم راودتني القاهرة في أحلامي في الغربة! كم أغوتني بفرصٍ ثم أفلتت يدي ولفظتني مثل رحمٍ عصبي!
يخبرني أنه كان يتمنى أن ينجب مني طفلاً. لم يكن ليدخله إلى المدرسة، كان ليلف معه العالم ويكرس حياته ليجعله سعيدًا.

—تزوجيني مرة أخرى (ينظر إلي بعينين وديعتين) تزوجيني ولو لساعة.. من أجل الأيام الخوالي (أضحك) أريد ولداً يجلس معي على المقهى ونلعب الكرة معاً في شوارع السيدة .. يدخن معي الحشيش فأنا لا أحب أن أدخن وحيداً.

أقبله في الشارع قبل أن أستقل التاكسي. لا أقول له أنني استأصلت الرحم بعد طلاقنا مباشرة بسبب السرطان. أود لو أمسح نهار القاهرة بعيني لأكتنزه لكنني أغلقهما لأحتفظ بنظرته لي أطول وقت ممكن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى