إبراهيم محمود - فضاء النص

لطالما استوقفتني عبارة " فضاء النص " من خلال كثرة استعمالاتها: الفضاء الروائي، القصصي، الشعري، الأدبي، النصّي...، إذ بناء على أي مسوّغ فنّي، فكري، أو رؤيوي، منِحت العبارة هذه تلك المكانة المحورية، في نطاق " جماليات المكان " ؟
لا يقصيني " الفضاء " عن الأرض، بمقدار ما يعلِمنا بالمحيط بها، بذلك الفراغ/ اللافراغ الذي يسمح بالحركة، بتنفس الكائنات المرئية واللامرئية، بتمرير العلاقات في اتجاهات شتى، بما يتجاوز المفهوم الحسي: الإقليدي، وما يتطلبه عذا الاكتشاف حديثاً من إلغاء مركزي الأرض الكونية، وحتى المجموعة الشمسية، واعتبار " الاحتمالي " هو المعتمد، بغية الاجتهاد.
استسهال تداول العبارة السالفة الذكر امتداد للفهم الخاطىء أو المبتذل لجملة المفاهيم ذات الصلة بما هو مكاني وزماني، واختزالها، وهي عملية تمثّل ترجمة نزيهة، كما أعتقد لتلك الثقافة ما قبل الحداثية وما بعدها، ومدى حاجتها إلى ثقافة مركَّبة تقوم على نقد ما حولها وتجاوزها معاً .
من الصعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً اعتبار الغالبية الكبرى مما يُكتَب وبافتراضها نصوصاً تستغرق موضوعات شتى، ومجالات مختلفة، منتمية إلى عالم " فضاء النص " .
أي إنني أجدني إزاء كلمتين تستوجبان إنارة لهما وتنويراً: ما يكون النص نصاً، وما يرتقي بالنص إلى مستوى الفضائي، وهو نوعية الحضور الزمني الواسع بكل أبعاده .
لا يكون فضاء نصياً، إن لم ينهض على اعتراف مسبق بأن هذا الذي يكتب نص إبداعه أو نقده، يمتلك تنوعاً معرفياً يمكّنه من معاينة ثغور ما يقرأ، أنى كان، والاعتراف الضمني بأن ما ينطلق منه متروكٌ له خط الرجعة، لئلا تكون كتابته انتحارية، تلغي ذوات الآخرين فيه باختلافهم .
لا يحضر فضاء النص بفاعلية مفهومه، إن لم يمتلك الكاتب تلك القدرات الإبداعية أو النقدية التي تؤهله لأن يكون منتمياً إلى عصره، ومسكوناً بعالم المدينة ومتخيلها داخل المؤسسة وخارجها، محصَّناً بتلك الجرأة على الكتابة وهو فيما يكتب يتنفس عالماً كاملاً بين جنبيه، ولديه حنين إلى سماع أصواته كائناته، وحتى حركة جماداته، لمعرفة الخفي الذي لا يستهان بقيمته واقعاً، أي ما يعزز مقولة التعدد الواقعي للواقع .
لا يجاز لفضاء النص لأن يعمَل بموجبه إن لم يحقّق في ذاته ما يعزّز إرادة القراءة، أي شعور قارئه إنه يمكنه التحرك فيه ببصره وبصيرته، كما لو أن الكاتب لا وجود له، وجانب الأريحية في صنعة القراءة وصداقة البحث مع النص شديد الأهمية في تفعيل ذائقة القراءة والكتابة، أي ما يظهِر النص عميقاً، رحباً، يظهر للعيان تدريجياً مع المزيد من القراءات، وهي عملية تمثّل تأكيداً على أن فضاء النص يحيل الكرة الأرضية ذاتها إلى كوكب سيّار بجوار غيره .
يتطلب فضاء النص بصيغته، ومن خلال مغذّياته المعرفية ضرباً من الجنون الذاتي والتواري عن النظر الحسي، فيكون الكاتب هو وليس هو، وتكتسب لغته قيمة مضافة إلى ما هو سائد، حيث يتمدد الجسد بمفهومه المجازي كما لو أنه يستوعب كامل الفضاء، أو على الأقل ما يبقي الأرض " نقطة زرقاء باهتة في الأفق "، كعنصر من عناصر كوكبية كثيرة في الكون، ويعيش خلائق غير مرئية داخله، ويتفاعل معها، وهي تتفاوت في قواها وإمكاناتها، وما من شأنه شحذ قوة المتخيل، بمفهومها " البُراقي " إن جاز التعبير، والنفاذ بين الحدود القائمة بسلطان أدبي، أو نقدي، أو فكري " مبين "، وهي ضمان أمان أوحد لعبور العوائق الذاتية أو المتصوَّرة، وبذلك يصبح فضاء النص أقصى ما يمكن للمرء بلوغه، فكيف يبلَّغ به، وثمة تشظيات أرضية فيه ؟
إن التسمية المباشرة، ومن خلال تكرارات ملحوظة للعبارة تلك، لا تعني منح الكاتب " براءة اختراع " وتسجيله مواطن نص فضائياً. بالعكس من ذلك، إننا نتلمس من هذا " الإسهال " الاستدعائي والاستمرائي والاستهوائي لهاتيك العبارة ترجمة حرفية لعدوى وليس سلوى القول المختلف، فثمة لغو وليس لغة، ثمة نظْم كلام، وليس استيلاد معان، وتفجير دلالات .
أن نتلمس في كتابة أحدهم هذه الرحابة في إيقاعات المفردة، هو ما يقرّبنا مما أشير إليه، أي حيث يكتب أحدهم بلغة واحدة، وتتاح له فرص- فرص القراءة بلغات شتى، مما يعني اكتساب نصه هوية فضائية النص، وما في ذلك من اجتهاد، أي رحالبة روحه بالذات.
النصوص بالطريقة هذه تتفاوت في أحجامها، لكن العمق قد يوحّد فيما بينها، وهذه هي تأشيرة أكثر أهمية وفذاذة للنص الفضائي، إن نصاً روائياً قصيراً من نوع" المعطف " لغوغول، أو " المسخ " لكافكا، يتساوى مع نص يستغرق مئات الصفحات من نوع " إعادة البحث عن الزمن المفقود " لمارسيل بروست، مع نص روائي آخر في جهة أخرى متوسط الطول من نوع " زوربا " لكازانتزاكيس ، مع نص روائي هو " أولاد حارتنا " لنجيب محفوظ ، أو " كوابيس بيروت " لغادة السمان " أو نص سيري روائي قصير هو " الجندب الحديدي " لسليم بركات، مثلما أن نصاً روائياً أعماقياً من نوع " الأخوة كارامازوف " يتلاقى مع نص آفاقي يمتد فسيحاً، من نوع " الحرب والسلام " لتولستوي، مثلما أن نصاً يمتلك قدرات سحرية من نوع " مائة عام من العزلة "، يتوازى مع نص ممتلىء شفافية وصادم من نوع " كتاب الضحك والنسيان " لميلان كونديرا، أو لا يخفي رمزيته من نوع " اسم الوردة " لإيكو، وما يصل بين نصوص شعرية، من نوع " أزهار الشر " لبودلير، و" أربعاء الرماد " لإليوت، و" أوراق العشب " لويتمان، وشاعر في نيويورك " للوركا، " القمر في متاهة " لنيرودا، و" أعراس " لمحمود درويش "... مثلما أن جملة النصوص التي كتبها بورخيس" قصصاً ومقالات "، تتلاقى مع نص لاحدودي من نوع " جماليات المكان " لباشلار، ونص نقدي، من نوع " قلق التأثر " لهارولد بلوم ، أو " نزهات في غابة السرد " لإيكو، أو حتى " رسالة إلى روائي ناشىء " ليوسا، أو " الكلمة في الرواية " لباختين، أو في الجانب الآخر من النقد الثقافي، من نوع " الثقافة والامبريالية " لإدوارد سعيد....الخ.
تلك قائمة تنتسب، كما أرى، إلى عالم " فضاء النص " لما في طياتها من عوالم متثاقفة في بنيتها، أي من أهلية الانفتاح، ولو بدرجات متفاوتة، حيث إن هؤلاء الكتاب، يحتفظون بقيمة زمانية ومكانية خاصة، ويطلقون العنان لشخصياتهم الأدبية والنقدية والفنية، فيكون الإيماني والإلحادي، أو الشيطاني والرحماني، أو الأفّاق والطهراني، أو السطحي والممتلىء تجارب...، من خلال تلك القابلية على إسكانهم في منزل نصه الفاره، اعترافاً مباشراً منه أن الكلمة ذاتها حواتها، أنها تقاسم الليل والنهار، تداخل المقدس والمدنس، اليابسة والماء...الخ .
وهذا يفصح عما يكونه المكتوب مقروءاً، عما يكونه المقروء مكتوباً في أكثر من اتجاه، إذ إن كل كتابة هي قراءة ما لواقع ما، وكل قراءة معايشة مع كتابة ما، واكتشاف حركية الواقع المرصود، تبعاً للخزّين القارّ من الواقع في بنية المكتوب، أياً كان نوعه...
والذي لا يُشك فيه هو أن ما أشير إليه من أمثلة ليس في مقام جردة إحصائية لما يستحق وما لا يستحق تذكيراً مفصلياً، إنما هي أمثلة قابلة لأن ينظَر في أمرها ومؤهلاتها الثرية إنسانياً .
أي حيث يستمر النص وينسّب نفسه إلى الوجود أكثر من الموجود المحدود فيه ، كما في كل نص تمت تسميته من باب النظر والمكاشفة النقدية بالمقابل.
إن نصاً يُشهَد له بمثل هذه اللاحدودية نص فضائي، وليس أن نسمّي ونترك التسمية جانباً .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى