من أحمد بوزفور إلى عبد القادر وساط

ما أجمل لامية الفرزدق في الشعراء قبله ياصديقي! فهم آباؤه الحقيقيون.. آباء الشعر لا آباء الدم. ولو كان منصفا لقال فيهم بيته الشهير:
( أولئك آبائي فجئني بمثلهم = إذا جمعتنا ياجريرُ المجامع )
وليس في آباء الدم الذين قال فيهم:
( إن الذي سمك السماء بنى لنا = بيتا دعائمه أعزُّ وأطولُ
بيتا زُرارةُ مُحتبٍ بفنائه = ومُجاشعٌ وأبو الفوارس نهشلُ )
وقد كان الفرزدق عارفا بذلك معرفةَ علم ومعرفةَ اعتراف ( ولكنها العصبية القبلية وما تْدير ). وقد قرأتُ قصة جميلة للفرزدق ( قصة يبدعها شاعر )، وقد سُئل عن يوم دارة جلجل في معلقة امرئ القيس، فحكى القصة بخيال مدهش وممتع كأنه الذي نحر للعذارى ناقته ( وقد كان غالب أبو الفرودق نحّارا عقّارا للنوق )، ولولا أن القصة طويلة لقدمتها للأصدقاء هنا، فليعد إليها من شاء في مظانّها.
أما قصيدة الفرزدق الرائعة:
( عزفت بأعشاش وما كدت تعزفُ = وأنكرتَ من حدراء ما كنت تعرفُ )
وهي طويلة تفوق المائة بيت، فقد بدأها بذكر حدراء. وحدراء امرأة من بني شيبان من ولد بسطام بن قيس بن مسعود الشيباني فارس العرب الذي قال فيه الجاحظ: ( بسطام أفرس من في الجاهلية والإسلام ). وكان والد حدراء نصرانيا . وماتت حدراء قبل أن يدخل بها الفرزدق. وفيها يقول في قصيدة أخرى:
( يقولون زر حدراءَ والترب دونها = وكيف بشيء وصلُه قد تقطعا
وأهونُ رزء لامرئ غير عاجز= رزيّةُ مرتجّ الروادف أفرعا
وما مات عند ابن المراغة مثلُها = ولا تبعته ظاعنا حيث ودّعا )
وابن المراغة طبعا هو جرير الذي لم يسكت، فقد ردّ بقوله:
( وحدراءُ لو لم يُنجها اللهُ برّزت = إلى شر ذي حرث دَمالا ومزرعا .
وقد كان رجسا طُهّرت من جماعه = وآب إلى شر المضاجع مضجعا )
( والدمال السماد )
ثم إن فائية الفرزدق غنية بأبيات شهيرة في التراث العربي.. وفيها البيت الشهير في كتب اللغة والنحو:
( وعضّ زمان ياابن مروان لم يدَعْ = من المال إلا مُسحتا أو مُجلَّفُ )
والمُسحت المُجتث المُستأصَل.. والمُجَلَّف الذي ذهب معظمه ولم يبق منه إلا اليسير.
ويقول الزمخشري في هذا البيت: ( هذا بيت لا تزال الرُّكَبُ تصطكُّ في تسوية إعرابه. ). وقال ابن قتيبة في ( الشعر والشعراء ): رفع الفرزدقُ آخر البيت ضرورة. وبعضهم روى البيت هكذا:
( وعضّ زمان ياابن مروان ما به = من المال إلا مُسحتٌ أو مُجلّفُ )
وبعضهم رواه:
( وعض زمان باابن مروان لم يدِع ( بكسر الدال ) = من المال إلا مسحتٌ أو مجلفُ )
من ودع يدِع إذا قرّ وسكن ومكث. ورواية رابعة ترويه: لم يُدَع.. على أساس أن أصله ( يودع ) أي يُترك، ثم حُذفت الواو تخفيفا.. وكل هذا لتفادي الضرورة.. والطريف أن بعض النحاة سأل الفرزدق عن هذا، فجَبَهَه الفرزدق وشتمه وقال له: ( عليّ أن أقول وعليكم أن تتأولوا ). وسأله النحوي الشهير عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي: علام رفعتُ مجلف؟ فأجابه: على ما يسوءك وينوءك..... وفي هذه القصيدة بيت آخر أثار نقاشا وردودا هو البيت الذي يقول:
( ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا = وإن نحن أومأنا إلى الناس وَقَّفُوا )
فيقولون إن قائل البيت في الأصل هو جميل بن معمر العذري صاحب بثينة المعروف. ويحكون أن الفرزدق حين سمعه من جميل قال له: هذا البيت يليق بي لا بك، فدعه، فسلمه له جميل، ومن يقول لا للفرزدق؟... والبيت أليق بالفرزدق الفخور منه بجميل المتيم. وأنا أشك في هذه القصة، وروح الفرزدق جلية في البيت.
صديقي العزيز سي عبد القادر:
إنما كنت أعول على الفرزدق لتهريبك من سجن الكثيب خفية، وليس لمواجهة الطاغية جهارا. ولن يغرني ما في خطابه الشعري من ادعاء وتفاخر، فأنت وأنا نعرف أن الجبن هو الذي يُنطقه حين يخلو بالقصيدة فيطلب ( الطعن وحده والنزالا ). وأنت تعرف أ ن بيته:
( ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم = إذا أثقل الأعناق حمل المغارم )
لم يقله عن عفو بعد مقدرة ولكن قاله عن اعتذار بعد عجز، فقد رووا أن سليمان بن عبد الملك أمره في مجلس عام أن يضرب عنق أسير رومي حكم عليه سليمان بالموت، فلم يتشفع للأسير ليفكه، بل ضربه ولكن ضربته بالسيف لم تؤثر في الأسير شيئا إما لنبوّ السيف وإما لضعف اليد الضاربة، فعيّره الناس بذلك وقال فيه جرير:
( بسيف أبي رغوان سيف مجاشع = ضربتَ ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ضربتَ به عند الإمام فأُرعشت = يداك وقالوا محدث غير صارم )
فأجاب الفرزدق:
( ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم= إذا أثقل الأعناقً حملُ المغارم
فهل ضربةُ الروميّ جاعلة لكم = أبا ككليب أو أبا مثل دارم )
وظل يعتذر بعد ذلك زمنا، مما يدل على أثر هذه الضربة في نفسه، فقال:
( أيعجب الناسُ أن أضحكتُ سيدهم = خليفةَ الله يُستسقى به المطرُ
لم ينبُ سيفيَ من رعب ولا دََهش = من الأسير ولكن أَخَّرَ القدرُ
ولن يُقدّم نفسا قبل ميتتها = حمعُ اليدين ولا الصمصامةُ الذكرُ )
وقال: ( ما إن يعاب سيدٌ إذا صبا - ولا يعاب صارمٌ إذا نبا - ولا يُعلبُ شاعرٌ إذا كبا )
وهكذا أصبحت ( ضربة الفرزدق ) علامة في التراث العربي على الضعف والعجز، ووظفها الكتاب بعده في الدلالة على ذلك في كل العصور. كلا ياصديقي. أنا لا أعوّل على الفرزدق في المواجهة، بل أعوّل عليه في نسج الخطط في الظلام، فِعلَ تأبط شرا حين حاصرته لحيان في قُنَّة الجبل، فأراق ما وجده من العسل البري في جباح على القنة، وأخذ يناورهم ويفاوضهم حتى اطمأنوا إلى استسلامه، ثم انزلق على العسل إلى السفح ففاتهم، وحكى ذلك في شعره:
( ... لكم خصلةٌ إما فداء ومِنَّةٌ = وإما دمٌ والقتلُ بالحرّ أجدرُ
وأخرى أصادي النفس عنها وإنها = لخطة حزم إن فعلتُ ومصدرُ
فرشتُ لها صدري فزلَّ عن الصفا = به جُؤجُؤٌ عَبْلٌ ومتن مُخصَّرُ
فخالطَ سهلَ الأرض لم يكدح الصَّفا = به كدحةً والموتُ خزيانُ ينظرُ )
أو فعل عمر بن أبي ربيعة في التسلل في زيّ امرأة بين نساء:
( فكان مجنّي دون من كنتُ أتقي = ثلاثُ شُخوص: كاعبان ومُعصرُ ).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى