عبد القادر وساط - الطاغية يغضب على وزير أسماء الشوارع

جاء في كتاب " إتحاف الخلان بأخبار طاغية نجدان " :
عن الشيخ أبي الحسن اليشكري ، عن محمد بن أحمد الغياثي ، عن شيخنا أبي الفضل النجداني، قال :
دعا الطاغية ُ يوماً صاحبَ شرطته، و قد مضى من الليل أكثرُ من نصفه ، و أمره أن يمضي في الحين لإحضار وزير أسماء الشوارع ، الشيخ أبي زكريا الغلابي ، الملقب بجمْر الغَضا، فجيء بالشيخ الوزير بعد ساعة زمنية ، و قد امتقع لونه و هو لا يدري لأي سبب أراده الطاغية في ذلك الوقت ، غير أنه حاول أن يتمالك نفسه ، و حيّا صاحبَ نجدان بتحية الطغاة، لكنّ المستبد لم يكترث لتحيته ، و خاطبه قائلاً :
- أخبرني أيها الشيخ ، كيف سولت لك نفسك أن تطلق اسم أبي الأسود الدؤلي على الشارع الذي يخترق الحي الغربي لنجدان ؟
قال الشيخ :
- حفظك الله ، يا مولانا المستبد بالله ، إنما أردتُ بذلك تشريفَ أبي الأسود الدؤلي ، لأنه هو أولُ من نقّطَ المصاحف ، و أولُ من أسّسَ قواعدَ اللغة العربية و أرسى مناهجَها و وضعَ قياسَها ...و هو أولُ من وضعَ باب الفاعل و المفعول و المضاف و حروفَ الرفع و النصب و الجزم . ثم إنه معدود في التابعين و المحدثين ...
فنظر إليه الطاغية نظرة الحانق، ثم قال له :
- و هل غاب عنك أنه معدود كذلك في البخلاء ، و هل نسيتَ يا تُرى أني لا أحب البخلاء ، و لا أطيق أن أرى أسماءهم تُطلَق على شوارعنا و أحيائنا ؟!
قال الشيخ جمر الغضا، و هو ينظر تارة إلى الطاغية و تارة إلى الوزراء الحاضرين :
- الحق أنه لم يكن بخيلا ، يا مولانا الطاغية ، و لكنه كان يدعو إلى عدم المبالغة في الجود . و قد أوصى أولاده فقال لهم :" لا تُجاودوا الله ، فإن الله َ أجْوَد و أنْجَد ، و لو شاء أنْ يُوَسّعَ على الناس كلهم حتى لا يكون محتاجٌ لفعل ..." و لكن بعض الناس كانوا يفترون عليه الأباطيل ، و كانوا يحسدونه ، لأنه كان من المتحققين بمحبة علي بن أبي طالب ، و قد شهدَ معه الجَمل و صفّين و غيرهما من المواقع ..
ثم سكتَ الشيخ الوزير قليلا ، قبل أن يضيف:
- و كان بَنُو قُشَيْر ، و هم جيرانه ، يرجمونه في الليل ، فإذا أصبحَ و ذكرَ لهم ذلك، قالوا له :" الله هو الذي يرجمك " فيقول لهم :" تَكذبون، لو رجمَني الله لأصابني ، و أنتم تَرجمون و لا تصيبون ."
قال الشيخ أبو الفضل النجداني:
فلما بلغَ الوزيرُ جمر الغضا ذلك المبلغ من الكلام ، أطرق صامتاً بينما الطاغية ينظر إليه نظرة مثقلة بالوعيد . و إذا بوزير التراث و التحقيق ، الشيخ محمد بن الفضل المخزومي ، الملقب بسبائب الكتّان ، يتكلم دون إذن من الطاغية و يقول :
- يا مولانا المستبد بالله ، لا يخفى عليك أن أبا عثمان الجاحظ قال عن أبي الأسود الدؤلي ، في كتاب البيان و التبيين : " جمعَ أبو الأسود شدةَ العقل و صوابَ الرأي و جودةَ اللسان والظرفَ و قولَ الشعر." أما أبو الفرج الأصبهاني فوصفَهُ ، في كتاب الأغاني ، بأنه " شيخ ُ العلم و فقيه الناس، و صاحبُ علي بن أبي طالب، و خليفة عبد الله بن عباس على البصرة ." و أما الآمدي فقال عنه ، في كتاب المؤتلف و المختلف :" كان أبو الأسود حليما حازما ، و شاعرا متقنا للمعاني..."
فلما انتهى سبائب الكتان من كلامه ، حسبنا أن الطاغية سيعجل له بالعقاب قبل صاحبه ، غير أنه بقي ينظر إليه ، دون أن تظهر عليه أمارات الغضب المعروفة ، ثم خاطبه :
- أيها الشيخ الوزير، أراك تحفظ كتب التراث حفظا لا يرقى إليه الشك ، و هذا لعمري أمر محمود ، و لكنك لم تذكرْ ما جاء في كتاب ( الأشباه و النظائر ) و لم تحك لنا كيف وقعَ أبو الأسود الدؤلي في حبّ امرأة نصرانية ، زرقاء العينين ، كُنْيَتها أمّ خالد ، فلما عاب البعضُ عليه ذلك ، نظمَ أبياتاً يدافع فيها عن حبه للنصرانية ، يقول فيها :
يَقُولُونَ نصرانية ٌ أمُّ خالدٍ = فقلتُ ذَرُوها ، كلُّ نفس و دِينُها
فإنْ تكُ نصرانية ً أمّ خالدٍ = فإنّ لها وجهاً جميلاً يَزينُها
و لا عيب فيها غير زرقة عينها = كذاك عتاقُ الطير زرْقٌ عيونُها
فلما سمع الشيخ سبائب الكتان ذلك الشعر أطرق و ابتسم . أما الطاغية فأضاف قائلا :
- كيف نطلق على شارع من شوارعنا اسمَ شيخ بخيل ، يدعو إلى الزواج بالنصرانيات ، ذوات العيون الزرق ؟
إثر ذلك أشار إلى صاحب الشرطة و قال له :
- إذا كان الغد ، فامحُ اسم أبي الأسود الدؤلي من الشارع المذكور ... و لكن لمَ تنتظر الغد ؟ امض حالا فأسقط تلك اللوحة التي تحمل اسمه .
ثم التفت بعد ذلك إلى الوزير جمر الغضا و قال له :
- أما أنت فسنغير لقبك من " جمر الغضا" إلى " ذئب الغضا" ....
قال الشيخ النجداني:
فلما انتهى المستبد بالله من كلامه أشار إلينا بحركة من يده ، فغادرنا مجلسه و نحن نعجب من كونه قد اكتفى بتغيير لقب الوزير " جمر الغضا" و لم يسيره إلى الكثيب ، و نعجب أكثر كيف تغاضى عن سبائب الكتان و عامله بحلم غير معهود....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى