خيرة جليل - حب من زمن كان...

كانت تحت الغطاء الدافئ ممددة على سريرها بدار العجزة وكنت ممسكة بيدها، نظرت إلى وجهها الشاحب وجسمها النحيل ورأيت دمعة ساخنة تنزل من عينيها نحو أسفل خدها ويداها ترتجفان بين يدي.
سألتها بكل حسرة : حبيبتي ما يبكيك ؟ هل تخافين الموت ؟ ألهذه الدرجة تخافينها رغم كبر سنك وكثرة نكباتك وفواجعك، ألهذه الدرجة تتشبثين بالحياة ؟
مسحت عينيها بكم معطفها كطفلة صغيرة وقالت : أبدا، إنما تذكرت كل ما كان يقوله زوجي لي. كان في لحظات غضبي يردد: كل شيء فيك جميل بما فيه غضبك.... أما في لحظة صفائنا فكان يتأبط ذراعي ونحن عجوزين في أواخر سنواتنا الأخيرة ويصطحبني معه إلى الأسواق ويشتري لي علبة حلوى كطفلة صغيرة ويهمس لي ونحن عائدين إلى البيت :
ـ حبيبتي كل الذين عابوا علينا الجرأة في حبنا هم جبناء فقط لأنهم لا يملكون من الشجاعة ما يؤهلهم للتعبير عن عواطفهم النبيلة مهما تقدموا في السن، ففضلوا لغة الهجوم لأنها الأسهل للضعفاء ليواروا خيبتهم.
وحين كان يأخذني للشاطئ في كل نزهة كان يقول لي مداعبا :
ـ حبيبتي تعالي نرسم مراكب على الرمل قد تُقْلع مع أول موجة تحملها إلى الأفق البعيد، إننا بحاجة لحب صادق ينسينا خيبة الحياة وشقاء العمر وغدر الأصدقاء، ولحلم قد يحملنا إلى ما لا يستطيع العقل تخيله أو رسمه، فكل الخيبات تهون إن وضعنا أيدينا في أيد بعض .لا شيء مستحيل ما دمنا مع بعضنا جنبا إلى جنب......
وكنا فعلا نرسم المراكب على الرمل، وفي كل مركب نتمنى أمنية وكلما مسح الموج واحدا من مراكبنا نقول بأعلى صوت مازحين:
ـ أيها الموج احمل همومنا بعيدا عن اليابسة وارمي بها بالثلث الخالي حتى لا تعود إلينا ولا ترمي بها إلى الشاطئ حتى لا يلتقطها احد أخر ويصبح تعيسا.... إننا خلقنا لنعيش سعداء حتى ولو كننا فقراء.
وعندما كنا نتابع أخبار المساء ويرى الكثير من العنف كان ينفض ثيابه ويقوم منتصبا ويقول لي: هيا حبيبتي لننام ونحلم بغد أحسن من اليوم إننا لا نحتاج إلى دول لتحمي الدين قد ينتهي اسمها بإستان أو فلان ، نحن نحتاج إلى دول اسمها إنسان يحترم الإنسان ..
قلت له يوما وانا اقرأ احد الكتب الرومانسية صدقت هذه السيدة حين قالت :
- إن الحب معركة توزع فيها الخسائر على الطرفين ! !
ابتسم بهدوء وأجابني :
- لكن نسيت أن تقول: إن الزواج احتفاء ابدي بحب نما بين جوانح عشاق لا تعرف قلوبهم اليأس ولا الاستسلام في جميع المعارك ليؤرخوا لحب أزلي لان آلهة الحزن أهدتهم قصة من قصص العشق المفضي إلى الموت.. يُفتدى الراحلون بالغناء حتّى اللحاق بهم...
ثم هم واقفا وقال:
ـ كنتُ شبه إنسان ستستوقفه الوجوه في عتمة الحياة قبل أن يجتاح حبك دواخلي ويسري دما في عروقي.
حينها أدركت يا ابنتي أننا نحيا بقلب واحد رغم أننا جسدين فوق الأرض، فوقفت إلى جانبه واختبأت في حضنه كالطفلة المذعورة وأنا سيدة فاقت الخمسين سنة آنذاك وقلت له :
حبك هو الغيمة الرحيمة التي استظل بها في عالم اجتاحه الجفاف العاطفي ، فكان قطرة ندى على وجه قلبي الميت لتنعشه . فهب لي سببا واحدا حتى لا اتبعك إلى حيث أنت ذاهب. فأنت قدري الذي لا أتبرم منه والمذهب الروحي الذي لا اندم على اعتناقه ولا أعرف كيف أكون بدونك. أكيد سأضيع، أتمنى آن أغادر هذا العام البائس قبلك. لكن الحياة لم تنصفني .
سألتها وهل تفتقدين وجوده إلى جانبك الآن عزيزتي ؟
ـ قد أكون كاذبة ان قلت لك لا ، لكن يا ابنتي كنت أطمح بأن نرزق بأطفال يملؤون علينا البيت ويؤرخون حبنا العميق والحقيقي ، لكن تلك كانت مشيئة الخالق أن لا نرزق بهم لعبرة هو يعلمها ، ونعم بالله . كنت أتمنى أن أكون أنا من يغادر هذه الحياة قبله لكنه لم يستطع الصمود أمام طعنات الحياة وما كان بيدي أن أبقيه إلى جانبي . أتعلمين لقد تزوجته زواجا عائليا تقليديا بما تحمله الكلمة من عادات وتقاليد وأنا ابنة الخمس عشرة سنة وكان هو يكبرني بعشر سنوات. دام زواجنا خمسين سنة متحديا جميع المشاكل بما فيها محاولة أسرته تزوجيه بواحدة أخرى غيري حتى تنجب له أبناء يحملون اسمه. لقد امتنع عن تنفيذ رغبة أسرته رغما عن ضغوطات والدته التي كانت جد قاسية معي، ربنا يغفر لها ويسامحها . ورغم معرفتي بأنه لا يستطيع الإنجاب لم أتبرم يوما من الوضع وتحملت إهانات والديه لي دون أن أكشف سرنا حتى لا يفقد هيبته أمام أهله . فكانت الآلام أهون علي بان يتهمونني بالسحر والشعوذة ليحبني إلى تلك الدرجة حتى لا يتخلى عني ارحم من أن يقال له انه ليس برجل قادر على إنجاب طفل يحمل اسمه لأنهم كانوا يعتبرون عقم الرجل نقصا في رجولته ، كان حبنا أقوى من أي شيء في الكون لأنه أجتاح قلوبنا البريئة بكل صدق . لقد صارحنا الطبيب بانه عاقر وطلبت منه أن لا يخبر عائلته. هكذا عاقبني إخوته وأبناؤهم بأن رموني خارج البيت الذي أمضيت فيه زهرة عمري . لم أحس إني كنت غبية حين امتنعت عن أن يكتب أي عقار باسمي حتى لا يعتبر عيشي معه كان اختيارا مقابل أملاكه أو أمواله لأني كنت اطمح بأن أموت قبله . دخلت دار العجزة بعد وفاته وتركت الجمل بما حمل ، ليستفردوا بالإرث لأني اعتبر وفاته قبلي أعظم خسارة لي . لا يهمني أين سأكون ولا مع من سأكون. كل الأشياء الثمينة فقدت قيمتها بعد وفاة زوجي . الشيء الوحيد الذي أحزنني كثيرا أني لم أنعم بالموت على السرير الذي جمعني بحبيبي ورفيق دربي لأزيد من خمسين سنة . لكن كنت محظوظة أن الله منَّ علي بكم لتحضنوني بين جوانحكم وتكونوا الأبناء الذين لم ألدهم . إني معكم أحسست بنفسي كعجوز تنتظر اجتماع ابنائها وحفدتها خلال نهاية الأسبوع لتمضي معهم أجمل لحظات بقية حياتها . شكرا لكم لأنكم منحتموني إحساس الأمومة التي لم أجربها إلا معكم . إن هذه الدار قد صانت كرامتي وإلا قد كنت الآن مشردة بالشارع العام، لأنام بين القطط والكلاب الضالة . لكن ما أبكاني اليوم هو فرحي لأن حبيبي جاء معكم ليطمئن علي ويأخذني معه . انظري انه يقول لي :
تعالي نحتفي بأنفسنا بما يليق بها من بهاء ، فالأرواح تعشق النور وتكره الظلام وتتطلع للتحرر بعيدا عن كل القيود ، تعالي نذهب مع بعض حيث تتمنين.
انظري انه يمد يده إلي وهو يبتسم بهدوء يا عزيزتي، كم هو جميل لا أعرف لماذا يظهر في سن شبابه رغم انه سافر منذ سنين وهو عجوز مثلي أنا الآن.
هكذا أشارت بأصبعها نحو الباب الذي تتسرب منه أشعة الشمس الصباحية الدافئة . التفت نحوها لأخبرها انه ليس هناك أي احد قادم نحونا لأجدها قد أسلمت روحها لبارئها وابتسامة عريضة تشرق ملامحها وانعكاس أشعة الشمس على شعرها الأبيض المنسدل من تحت منديل رأسها يمنحها جمالا ملائكيا وكأنها تغط في نوم هادئ.......


خيرة جليل
عن الكاتب
خيرة جليل
https://www.facebook.com/khira.jalil
https://www.facebook.com/KhiraJalilArt/
https://www.facebook.com/KlmtWmny/
https://www.facebook.com/%D9%85%D9%86%D8%AA%D8%AF%DB%8C-%D8%A3%D8%AC%D9%86%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86-%D9%84%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%B9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%85%DB%8C%D8%A9-101273344766649/

تعليقات

أعلى