عبد القادر وساط - اعتقال ابن قتيبة

من صاحب شرطة نجدان ، الشيخ عبدالرحمان بن الحسن بن الفضل ، الملقب بثالثة الأثافي
إلى الطاغية المستبد بالله
أدام الله علينا طغيانكم ، و بعد
أخبركم يا مولاي أننا قمنا يوم الثلاثاء لعشر بقين من رجب ، باعتقال أبي محمد عبدالله بن مسلم بن قُتَيبة الدِّينَوْري، الأديب النحوي اللغوي، و ذلك بالتهم الثقيلة التالية : إفساد الذوق الشعري في مملكة نجدان العامرة ، و النظرة الضيقة إلى الشعر و انعدام الحس الفني في الكتابة النقدية ، مع تركيز الاهتمام على الجانب الأخلاقي للقصيدة ، و التجاهل المطلق لأهمية التصوير الفني . وهكذا قمنا باستنطاقه ، وفق قوانين الاستبداد الجاري بها العمل. و قد سألناه ، أولَ ما سألناه ، عن السبب الذي جعله يؤلف كتابَ " الشعر و الشعراء"، الممنوع في نجدان ، فكان جوابه :
- كان همي الأول في كتابي هذا أن أتحدث عن الشعراء و أزمانهم و عما يُستحسَنُ من أخبار كل شاعر و ما يُستجاد من شعره ... و كان أكثر قصدي للمشهورين من الشعراء، الذين يَعرفهم جلُّ أهل الأدب ، والذين يَقعُ الاحتجاجُ بأشعارهم في الغريب وفي النحو، كما بينتُ ذلك في مقدمة الكتاب. وأما من خفي اسمُه وقلَّ ذكْرُه ، وكان لا يَعرفه إلا بعض الخواص، فلم ألتفت إليه...
و سألناه عن الفرق بين القدماء و المحدثين من الشعراء ، فأجاب قائلا :
- إن الله لم يقصر العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا قوم دون قوم، بل جعل ذلك كله مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره.
و هو ما يبين موقفه المناوئ للموقف الرسمي في نجدان . ثم إننا سألناه، بعد ذلك، عن الكتب الأخرى التي اقترفها ، فاعترف دون عناء أنه ألفَ كتبا عديدة، منها " معاني الشعر" و" عيون الشعر" و" عيون الأخبار"و " أدب الكاتب."
إثر ذلك سألناه عن الأنشطة الأخرى التي كان يقوم بها فيما مضى من الزمن ، فكان جوابه :
- أعترف أني لم أقتصر في تصانيفي على الأدب، فقد كنتُ عالما لغويا كذلك، أجمع بين المذهبين البصري والكوفي، مثلما كنتُ قاضيا في الدينَوْر، مما جعل الناسَ يسمونني الدينوري. ورغم اشتغالي بالقضاء، وكثرة مصنفاتي في علوم القرآن والحديث، فإن إسهامي في المناقشات الكلامية - وما كان أكثرها في زمني! - قد جعل البعض يتهمونني بالزندقة .
فلما سمعنا منه هذا الكلام ، يا مولانا الطاغية ، أدركنا السبب الحقيقي الذي جعل واحدا من كبار أعداء دولة نجدان ، و هو عبدالرحمان بن خلدون ، يشيد بهذا الغاوي في مقدمته المشهورة ، حيث يقول : " و سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين، هي: أدب الكاتب لابن قُتيبة، والكامل للمبرد والبيان ، والتبيين للجاحظ، والنوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبعٌ لها وفروع عنها..."
و لم ننس - يا مولاي - أن نسأل هذا الضال المضل عن السبب الحقيقي لوفاته ، التي ما زال يحيط بها كثير من الغموض. و قد أجاب على ذلك بقوله :
- كانت وفاتي سنة 276 للهجرة، وأنا في الثالثة والستين من العمر. ويبدو أنني متُّ نتيجة لحالة تسمم، كما يقول أطباءُ زمنكم. و كل ما أذكره أني أكلتُ هريسة فأصابتني حرارة، ثم صحتُ صيحة شديدة، ثم أغْمِيَ عليّ إلى الظهر واضطربتُ ساعة ثم هدأتُ، فما زلتُ أتشهد إلى أن أدركَتْني الوفاة عند السَّحَر... بينما يَزعم آخَرون أنني متُّ فجأة، إذْ صحْتُ صيحة عظيمة، سُمعَتْ من بُعد، ثم أغمي عليّ وفارقتُ الدنيا. والله أعلم بالحقيقة ."
و سألناه - يا مولانا الطاغية - عن رأيه في بيت أبي نواس ، الذي جعلتموه شعارا لكم و لطغيانكم ،و الذي أمرتم بكتابته بماء الذهب عند مدخل نجدان ، لأنه يعبر خير تعبير عمّا تزرعونه من رعب في قلوب أهل الشرك :
و أخَفْتَ أهل الشرك حتى إنهُ = لَتخافك النُّطفُ التي لم تُخْلقِ
فأجاب عدو الله و عدو نجدان :
- أنا أعرف أن هذا البيت هو شعار دولة المستبد بالله ، و مع ذلك فإني لا أستسيغه و لا أستسيغ معناه ، إذ كيف تَشعر بالخوف نطفة لم تُخلق بَعْد؟!
و لما أردنا أن نحصل منه على المزيد من التفاصيل بخصوص هذا الموقف المناوئ لبلادنا و لطاغيتنا المبجل ، شرعَ في الزعيق و الاحتجاج . و يَعرف مولانا الطاغية أن هذا الشيخ الضال ينحدر من مَرْو- ولذلك يسمونه المَرْوَزيّ- و أن أهل مرو يتميزون بحدة المزاج. و هو ما جعلنا نؤجل الأسئلة المتبقية إلى حين نقله إلى الكثيب، حيث لا أحد يكترث لحدة مزاجه أو يعبأ بصراخه و صراخ أمثاله .
و السلام على حضرتكم و رحمة الله .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى