من عبد القادر وساط - مع أبي حيان التوحيدي عند باب الطاق

رأيتُ فيما يرى النائم أني بباب الطاق في بغداد، في منتصف القرن الهجري الرابع، وأني لقيتُ هناك شيخَنا أباحيان التوحيدي، فسررتُ غاية السرور برؤيته ومضيت نحوه وسلمتُ عليه وسألته عن حاله، فنظر إلي مليّاً ثم قال :
- أنا بين فرَح و تَرَح، ولكنّ لطف الله يُقَربُ كل بعيد ويُسَهّلُ كل شديد.
ثم رأيتني أمشي بجانبه على الشط، وسمعتُهُ يَذكر لي بعضَ ما جاء في كتاب الإمتاع والمؤانسة عن فساد الزمان، وكيف سُفكت الدماء واستُبيحَت النساء وشُنَّت الغارات وخُربَت الديارات وكَثرَ الجدال وفَشا الكذبُ والمحال وأصبح طالبُ الحق حيران، وصار الناس أحزاباً في النحَل و الأديان، فهذا نُصَيري وهذا إسحاقي، وهذا جارودي وهذا قِطِّعيّ، وهذا جُبّائي وهذا أشعري، وهذا خارجي وهذا شُعَيبي، وهذا قَرْمَطي وهذا راوندي، وهذا قدري وهذا جبْري، وهذا لفظي وهذا مستدركيّ، وهذا حارثي وهذا رافضي.
كنا قد ابتعدنا عن الشط واقتربنا من مكان قفر، فإذا بربوة كثيرة الحجارة وإذا بنار عظيمة تستعر في أعلاها، فسألت شيخنا عنها فقال :
- أوَ لم يبلغك خبرُ تلك النار؟ إنها كتبي تحترق!
ثم سكت قليلا قبل أن يقول لي :
- يبدو أنك غريب.
فسألتُه:
- وما صفة الغريب يا شيخي أبا حيان؟
فوضع يده على كتفي وقال :
- سألتُ ابن الجلاء الزاهد عن الغريب فقال: "هو الذي يمضي من مدينة إلى مدينة، ومن قُلة إلى قلة، ومن بلد إلى بلد، ومن بر إلى بحر، ومن بحر إلى بر حتى يَسلم، وأنى له بالسلامة مع هذه النيران التي طافت بالشرق والغرب وأتت على الحرث والنسل.
ثم تهدج صوت شيخنا أبي حيان وشرع يردد بيتَ امرئ القيس:
أجارَتَنا إنا غريبان هاهنا
وكلُّ غريبٍ للغريب نسيبُ
بعد ذلك مال علي وواصل قائلا بصوت يشبه الهمس:
- هل تعلم؟ لقد مضيتُ قبل أيام إلى حارة الزعفراني، لأستمع للمغنية سندس، جارية ابن يوسف، صاحب ديوان السواد، وهي تترنم ببيت امرئ القيس هذا، بغنّتها الرخيمة وإشاراتها العذبة وحركاتها المدغدغة وظرفها البارع ودماثتها الحلوة، فابتلّت والله شيبتي بالدموع.
ولم يكد الشيخ أبو حيان ينتهي من كلامه هذا حتى كان قد اختفى، فلبثت برهة من الوقت أردد بيتَ امرئ القيس وقد تملكني إحساس غاية في الغرابة، كان مزيجا من الغبطة والكآبة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى