ميسلون هادي - حلال دم الغزال

فقدت أخي الأصغر لسبب غريب، ولم أتوقع أن يأتي يوم تصدر فيه المحكمة حكماً يقضي بإحالته إلى دار الأحداث.. قتل أخي عجوزاً طاعناً في السن، وهو لما يبلغ مبلغ الرجال بعد.. إنه ينجذب الى ألوان بعض اللوحات وأشكالها، ولم نستطع توكيل من يدافع عنه سوى محام مغمور سيء الهندام يعاني صعوبات مادية مثلنا، وكان زوجي يمده ببعض المال لتزويد سيارته بالوقود . أخي قال لي في الرسالة التي بعثها لي من دار الأحداث إنه اضطر إلى قتل ذلك الرجل العجوز، لا لكي يتخلص من الشر قبل أن يحدث، ولكن لكي يتخلص من انتظار شيء مرعب يحدث كل يوم…

قال لي:

“كما تعلمين كان عمري 12 عاماً منذ أن اشترى والدنا هذا البيت، وبعد أن مات، بقيت وحيداً مع أمي، وشهدنا أحداثاً غريبة في السنوات الثلاث التي تلك موت أبي ومغادرتك البيت بشكل نهائي بعد زواجك.. اللوحات الفنية التي كانت تملأ جدران البيت بدأت تتحدث أثناء الليل إلى لوحات أخرى. أخبرت أمي بذلك، فقرأت على رأسي المعوذات والأدعية، وراحت ترقيني بأسماء الله الحسنى وصفاته، في الصباح وبعد صلاة المغرب. تجزم أمي أن تلك الوساس هي من نزغ إبليس، وأن التعوذ منه ثلاث مرات في الصباح والمساء ستجعله يرحل….. بقيت أتعوذ من الشيطان الرجيم مئات المرات لعدة أيام، ولكن اللوحات ظلت تتحدث الى بعضها بعضا..

المشكلة أن تلك اللوحات هي آخر ما تبقى من حياة طبيعية في بيتنا.. وكانت مشتراة بأثمان باهظة من كاليريهات معتبرة لازلت مفتوحة بالرغم من الحرب .. بعضها لخيول، أو طيور، أو حياة ساكنة.. وتلك كانت صامتة لحسن الحظ.. أما لوحات البيوت ذات الطابع البغدادي العريق، فكانت محتشدة بنساء ممتلئات، وأطفال مرحين، ومكائن خياطة من طراز قديم، ومدافئ نفطية لم يعد لها وجود في الأسواق، ورجال ظرفاء يرتدون الجراويات، أو السداير، وتلك الأخيرة لها بين باقي اللوحات مكانة خاصة في نفس أمي .. وأنت أيضاً كنت تحبينها جداً. أكتب لك الآن لأقول لك بأن كل شيء قد تغير بعد أن أصر زوجك على ترك العراق إلى السويد، حدث ذلك فجأة، ولم أتوقعه أن يحدث أبداً.. أي أن تسافري وتبتعدي عنا، وقد لا نراك مرة أخرى حتى نهاية العالم، وطوال ثلاث سنوات عشتها مع أمي لم استطع التخلص من سماع تلك الأصوات التي كانت أمي تسميها الوسوسات أحياناً، والكوابيس أحياناً أخرى.. تظن أني أتخيلها أو أتوهمها، بدليل أنها لا تسمع حديث اللوحات، وأنا وحدي الذي أسمعه.. كلامها لم يكن دقيقاً، لأن تلك الأحاديث كان تتردد همساً في الليل.. عندما تكون أمي نائمة في غرفتها بعيداً عن غرفة الضيوف أو المعيشة.. وحتى لو سهرت من أجل سماع أحاديث اللوحات، فأنها لا تبدأ بالنطق إلا عندما تنام أمي.. شيئاً فشيئاً ما عدت أنظر إليها على أنها كوابيس.. أصبحت أحاول أن أفهم حديث الرسومات التي تتأتئ بحروف مبهمة.. أو كلمات غريبة.. فتقول مثلاً: القشعريرة.. أو الهامة.. أو العدم.. ولم أعد أخاف منها، بل اعتدت أن استمع إليها، وأنتظر كل ليلة ما هو الجديد الذي تتحدث به اللوحات.. النساء ثرثارات يتحدثن بصوت رفيع أعلى نبرة من أصوات الرجال العريضة. وفي ليلة من الليالي جاء صوت آخر من الأعلى.. سمعت الضجيج قادماً من نهاية الدرج.. صوت في الطابق العلوي بدأ يهمس بشكل غير مفهوم.. لم يكن يشبه صوتي أو أي صوت آخر من أصوات رسوم اللوحات.. شعرت بالخوف، وذهبت إلى الغرفة حيث تنام أمي، فلم أجد أمي، ولكن وجدت الكثير من الأجساد على السرير.. لم أكن أدرك أو افهم أي شيء. لا أعرف ماذا أفعل .. لا شيء سوى ذعر وشلل في التفكير.. الصوت كان مثل الهمس يأتي من رجل، وليس له أي تعريف… من أين يأتي هذا الصوت، ولماذا أمي غير موجودة.. وكما حصل في مرة سابقة، فقد تذكرت أني قد لممت الثياب التي جفت من حبل الغسيل، ووضعتها على سرير أمي منذ أيام، فبدت مثل أجساد مكومة فوق بعضها بعضا. لم أخبر أحداً بذلك على الإطلاق.. لم أذكره لأحد … ولمن أذكره وقد أصبحت أعيش وحدي في البيت.. أنتظر أن أسافر إليك وإن كان على مضض.. بقيت أحاول أن أتعود على هذا الصوت الجديد المضاف إلى أصوات اللوحات، حتى جاءت ليلة كنت نائماً.. فأصبح الصوت في الطابق العلوي ضجيجاً لا يطاق، كأن جميع الأبواب على وشك أن تنفتح. هناك اثنتان من الأبواب في الطابق العلوي، تتململان أثناء الليل، وفيما مضى، كنت أسمع بعض الضجيج أثناء نومي، فأظنه صدى وقع أقدامك وأنت تهبطين من الطابق العلوي في الليل من أجل الذهاب إلى الحمام… وعندما نظفت حذائي من الطين وأجزاء الحشرات التي كانت عالقة به، سمعت أيضاً ذلك الصوت.. كان ذلك في نهار يوم عاصف سبق ليلة الجناية التي ارتكبتها وأنا لم أبلغ سن الرشد بعد. وكما تعلمين فلا شيء يقلق في النهار. فقد يكون الهواء العالي هو سبب الضجيج، أو الغبار الأحمر الذي أنتشر في الجو.. تطايرت الأوساخ والخرق من كل شكل ولون، ثم هطل المطر وأوحلت الأرض.. واشتعل برق مفاجئ في السماء تبعته زمجرة شديدة ارتعد لها الأطفال في الشارع، ثم هاجوا وماجوا في كل اتجاه.

حدث ذلك كله وقت الظهيرة قبل أيام، وهذه المرة ارتجفت الأبواب في الليل، وسمعت ضجيج مفاصلها من مكاني على الأريكة. وأخيراً، جاء ذلك الرجل العجوز يمتد من الطابق العلوي إلى النافذة، ليس لدي أي فكرة ما هو؟ كان يواصل الصــــــــــراخ:

– حلال دم الغزال.

دخل الرجل بقامته الطويلة نصف عارٍ إلى كل مكان، وخلع حذاءه على أرض الغرفة، وفاحت منه رائحة نتنة. وعندما وجدني ملتفا على نفسي كما الجنين، قال:

– حلال دم الغزال.

لا يوجد أحد يمكن أن يرانا أو يسمعنا في الفناء، ولكني كنت أستطيع أن أرى ساعة الجدار فوق النافذة، وأطفالا يلعبون خارج الأبواب، وبقايا غبار في أكثر من مكان.. (كان عمري نحو ستة عشر، وكان هو في الثمانين من عمره). فكرت أين سأختبئ؟ إنه يريدني أن أختبئ، وأخذ يعد من الواحد للعشرة.. وكانت اللوحات تتحدث عن قشعريرة تأتي من من العدم.. وعن صوت في هامة الدرج يخيفهم منذ وقت طويل.. الآن فهمت.. كانت اللوحات تريد طوال الوقت أن تخبرني بشيء ما حول ذلك العجوز.. كلانا نظرنا إلى بعضنا بعضا، اقشعر جلدي من الفزع.. وعرفت ماذا يفعل الفزع.. إنه الطريق الأسلم لحل هذه المشكلة.”

طويت رسالة أخي الأصغر وبكيت.. أنا أيضاً كنت أرى ذلك العجوز في البيت.. ولكني كنت أختبئ بين اللوحات والجدران.. أنا أيضاً كنت عندما أراه أصاب بالقشعريرة، ولكني لم أجرؤ على قتله قط.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى