عبد القادر وساط - من أحلام الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا

رأى فيرناندو بيسوا، فيما يرى النائم، أنه عاد من الجبهة إلى بيت أسرته، المقابل لبناية الأوبرا، في لشبونة.
كان عائدا بلباس الميدان، بعد غياب طويل.
طرق البابَ ففتحتْ له والدته ماريا ماجدالينا. فوجئ بأنها في ريعان الشباب. كانت تصغره بعشرين سنة، على الأقل.
كان البيت كعهده به في الزمن القديم.
حتى معطفه وهو طفل كان لا يزال معلقا على الجدار، قرب النافذة، في تلك الغرفة التي كان يقتسمها مع جدته ديونيزيا.
كان والده يواكيم جالسا على كنبة حمراء، في أقصى الغرفة، يتصفح كتاب الملك لير لشكسبير. كانت ساقه اليمنى ملفوفة بالجصّ.
اقترب منه فيرناندو بيسوا وتناول الكتاب، فوجدَ أن أوراقه كلها فارغة بيضاء.
كان هناك ظل صغير، يتحرك في الغرفة دون توقف. أدرك بيسوا في الحين أنه ظلُّ أخته مادلينا هنريكيتا، التي ماتت قبل سنوات عديدة، وهي في عامها الثاني.
قال له الأب بلهجة غاضبة، وهو يستعيد منه كتاب الملك لير:
- من سمح لك بالدخول هنا، أيها الجندي الجبان؟
في تلك اللحظة دخلت امرأة شابة، بلباس الممرضات، تحمل أدوات الحقن.
كانت جميلة لكنها بادية السمنة. نظرت إلى بيسوا باهتمام واضح، ثم قالت له:
- أنا ممرضة. اسمي أوغستينا. عليك أن تخرج الآن، سأجري حقنة عضلية لوالدك السيد شكسبير... عفوا، السيد يواكيم.
أراد بيسوا مغادرة المكان، لكن الممرضة أوغستينا أمسكته من ذراعه قائلة:
- بل تعال، من الأفضل أن أجري هذه الحقنة لك أنت، فهذا الشيخ البائس لن يستفيد منها، على أية حال.
استسلم بيسوا للأمر بهدوء تام. وبعد أن انتهت أوغستينا من الحقن، جذبته من يده باتجاه النافذة، وأحاطت عنقه بذراعها، ثم قربت فمها من أذنه وسألته بصوت هامس:
- متى عدتَ من الجبهة؟
أخبرها أنه عاد قبل ساعات، وأنه كان يحارب في صف الجنود العميان.
في تلك اللحظة، حانت منه التفاتة لوالده، ففوجئ بأنه قد صارت له بالفعل ملامح شكسبير.
كانت الأم ماريا ماجدالينا تجلس بجانبه، وتخاطبه قائلة:
- أيها الشيخ الهرم، يا شكسبير الزائف، عليك أن تعيش تسعة أشهر أخرى فحسب. هل تسمعني جيدا؟ تسعة أشهر فحسب. لن أسمح لك بأكثر من هذا.
كان الأب قد استعاد ملامحه الحقيقية، حين سمع ذلك الكلام، وكان كمن يستغيث بابنه، لكن دون جدوى.
لم يكن فيرناندو بيسوا قادرا على الحركة عندئذ، إذْ كانت فردة حذائه اليمنى قد طالت بشكل غير مفهوم. كانت قد تجاوزت المتر. قدمه اليمنى أيضا كانت قد طالت وتمددت بالطريقة نفسها.
هل هو مفعول الحقنة؟ تساءل الشاعر البرتغالي.
كان يريد أن يحكي لوالديه عن الحرب وعن الخنادق وعن قمَر العميان، الذي يسطع كل ليلة في الجبهة، لكنه كان يحس بالخدر يسري عبر جسمه، بينما قسمات والده تتغير باستمرار، فتتخذ ملامح شكسبير تارة وملامح يواكيم تارة أخرى.


---------------------------------
( من كتابي : النمر العاشب.)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى