عبد القادر وساط - الطاغية يعتقل كبيرَ شعراء الجنّ

جاء في كتاب " الإتحاف":
حدثنا شيخنا أبو الفضل، قال:
حضرتُ مجلسَ الطاغية لمّا جيءَ بالجني الخيتعور، وهو يرسف في قيود الحديد. فلما مثل بين يديه، تقدمَ صاحبُ الشرطة وقال:
- هذا أبو هدرش الخَيْتَعور، يا مولانا المستبد بالله، قد أظفرك الله به، فجئناك به مكبلا بالأغلال. وهو - كما لا يخفى على مولانا - من بني الشّيْصَبان، من سلالة الجن الذين كانوا يَسكنون الأرض قبل وَلَد آدم عليه السلام.
فلما سمع الطاغية ذلك الكلام، نظر طويلا إلى الجني الماثل أمامه، ثم قال له:
- يا خيتعور، لقد تحدث المعري ، في رسالة الغفران، عن لقائك بالشيخ ابنِ القارح، وذلك في جنة العفاريت.
قال الخيتعور:
-أجل أيها الطاغية. وكان ذلك اللقاء في جنة العفاريت المؤمنين، الذين ذُكروا في ( الأحقاف) وفي ( سورة الجن)، وهم خَلْقٌ كثير.
قال الطاغية:
- وقد ذكرَ شيخُ المعرة أن عفاريت الجنة يقيمون في مدائن ليست كباقي مدائن الجنة، ولا عليها النور الشّعْشَعاني.
قال الخيتعور:
- مهما يكن، أيها الطاغية، فقد دخلتُ الجنة بإيماني.
قال الطاغية:
- ولكنك كنتَ قبل ذلك تتصور في أية صورة شئت، لتَصرع فتيات الإنس. إذْ تظهر في صورة حية رقشاء، أو في صورة عَضَل - أي جُرَذ - ثم تصير ريحاً هفّافة، أو غير ذلك.
قال الخيتعور:
- نعم أيها المستبد بالله، لقد لقيتُ من بني آدم شرّاً ولَقوا مني كذلك. ولم أزل على عداوتي لهم حتى رزقَ اللهُ الإنابة َ. فلما تاب عليّ، امتنعتُ عن تلك الأفعال. ولي أشعار كثيرة، روى أبو العلاء المعري قسماً منها في رسالة الغفران.
قال الطاغية:
- لقد حفظنا ونحن أطفال رائية ً لك على البسيط، تصفُ فيها كيف كنتَ تملأ قلوبَ مختلف المخلوقات بالرعب، ومن أبياتها:
و لا أمرُّ بوحشيٍّ و لا بَشَرٍ = إلّا و غادرْتُهُ ولْهانَ مذعورا
فتارةً أنا صلٌّ في نَكارَته = و ربما أبصَرَتْني العينُ عُصْفُورا
ثم سكت الطاغية قليلا قبل أن يواصل:
- ولم تكن يا خيتعور في إيذائك للناس تميز بين هذا الجنس وذاك، بل كنتَ تتربص بمختلف الأجناس، من زنج وروم وتُرْك وسقْلاب وغُور، وفي ذلك تقول:
أرَوّعُ الزنجَ إلماماً بنسْوَتها = و الرومَ و التركَ و السّقْلابَ و الغُورا
فابتسم الخيتعور لدى سماعه ذلك الكلام، ثم قال:
- وهذه الرائية هي التي أذكرُ فيها أني موجود منذ القدَم، وأني عاصرتُ طوفانَ نوح:
و طرتُ في زمن الطوفان معتلياً = في الجَوِّ حتى رأيتُ الماءَ محسورا
أما عن توبتي وفوزي بنعيم الخلد فأقول:
ثم اتّعَظتُ و صارتْ توبتي مثلاً = منْ بعْد ما عشْتُ بالعصيان مشهورا
أماتَني اللهُ شيئاً ثم أيقظني = لمَبْعَثي فرُزقْتُ الخلْدَ مبرورا
قال الطاغية :
- ولك كذلك - أيها الجني- قصيدة سينية على السريع، أورَدَها شيخُ المعرة كاملة في رسالته. وأنتَ تصف في مطلعها كيف أقْوَتْ مكة ( أي فرغَتْ وأقفرَتْ ) من بني الدردبيس، أي من الجنّ، في زمن النبوة، فلم يعد يُسمع لهم فيها صوت أو حسٌّ:
مكّة ُ أقْوَتْ منْ بني الدّرْدَبيسْ = فما لجنيٍّ بها منْ حَسيسْ
قال الخيتعور:
- وفي هذه السينية، أصف ما كنا نقوم به - نحن الجِنّة - من أفعال الشر، قبل أن يمنّ الله علينا بالإيمان، بعد البعثة. فقد كنا، في زمن الجاهلية، نركب خيلاً لها أجنحة:
تَحملنا في الليل خيلٌ لها = أجنحةٌ ، ليستْ كخَيْل الأنيسْ
ولم نكن نفرق بين أيام الأسبوع، لأننا لم نكن نؤمن بما يوجب ذلك:
فالأحَدُ الأعظمُ و السبْتُ كالْإثنين = و الجُمْعَةُ مثل الخميسْ
لا مُجُسٌ نحْن و لا هُوَّدٌ = و لا نصارى يَبْتَغون الكَنيسْ
ثم إني أحكي في هذه القصيدة السينية الطويلة، كيف منّ الله عليّ بالإيمان بعد ذلك، وكيف جاهدتُ في بدْر وحاميتُ في أحُد وفي الخندق، وامتنعتُ عن التعرض بالأذى لفتيات الإنس، فلم تعد تخشاني العانس ولا الكعاب ولا من اسمها زينب ولا من تُدعى لميس:
فلمْ تَهَبْني حرّةٌ عانسٌ = و لا كَعابٌ ذاتُ حسْنٍ رسيسْ
و أيقنَتْ زينبُ مني التُّقى = و لم تخفْ منْ سَطَواتي لَميسْ
و قلتُ للجنّ : ألَا يا اسجدوا = لله و انقادوا انقيادَ الخسيسْ
قال الطاغية :
- على أية حال، فللجنّ أشعار كثيرة. وقد زعمَ المرزباني - رحمه الله - أنه جمعَ منها قطعة صالحة...
قال الخيتعور:
- إنما ذلك ضرب من الهذيان، لا معتمَد عليه، أيها الطاغية. وهل يعرف البشرُ من الشعر إلا كما تعرف البقرُ من علم الهيئة ومساحة الأرض؟ وأنتم، معاشر الإنس، حين تُدرككم حُرفة ُ الأدب، تنظمون الشعر على خمسة عشر بحراً، لا يَعْدوها أحد منكم. أما نحن فلنا آلاف الأوزان، التي ما سمعتم بها قط. ولقد نظمتُ أنا الرجزَ والقصيد قبل أن يَخلق الله آدم بكَوْرٍ أو كَوْرَين. كما أننا نحفظ من الأشعار ما لا تستطيعون حفظه. لأننا لسنا مثلكم، يغلب علينا النسيان والرطوبة. فأنتم خلقتم من حمإ مسنون، وخُلقنا نحن من مارج من نار. وليس عندنا عرَبٌ لا يفهمون عن الروم، ورُوم لا يفهمون عن العرب، كما نجد في أجيال الإنس، لأننا نحن أهل ذكاء وفطَن، ولا بد لأحدنا أن يكون عارفا بجميع الألسُن الإنسية. ولنا بعد ذلك لسان لا يفهمه الأنيس.
قال الطاغية :
- ستتحدث ما شاء لك الله أن تتحدث بهذا اللسان الذي لا يفهمه الأنيس. وذلك في سجن الكثيب مع باقي المعتقلين من الجِنة...
قال الشيخ أبو الفضل:
ثم إن الطاغية أشار إلى صاحب شرطته، فإذا بالخيتعور يُحمل حملا إلى الخارج، كي يتم إشخاصه بعد ذلك إلى الكثيب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى