محمد عبد المحسن سنجر - بهيـــــــــة

حاولت المسكينة الإفلات من بين أيادي النسوة
ينهال عليها الرجال سبا و قذفا
تحاول بيديها حماية وجهها و جسدها من أمطار الحصى التي تتساقط عليها من كل صوب
تركض المسكينة فارة بنفسها
اعترضت إحداهن ( بعصاها ) رجليها النحيلتين ،
تسقط على وجهها
تحس طعم التراب والدم مختلطان في فمها
يصرخ أحدهم : زي ما لطخت شرفنا في الوحل يا فاجرة
تحاول المرعوبة الوقوف ،تتجمع النسوة حولها
تنجح في الإفلات من بن أيديهم ، ما تلبث أن تتوار عنهم
يتبعها الصبية إلى بيتها راجمين
دفعت باب دارها عنوة ، توارت خلفه ، حاولت إغلاقه جاهدة
أسندت الباب العتيق بجسدها الهزيل ، جاءتها طعنات اتهاماتهم المسمومة
: السهتانة لبستكم طرح يا بلد
:بقى بالذمة ما فيكمش راجل عارف يوقفها عند حدها،كل يومين راحة المعسكر ، لغاية ما بطنها كبرت و المستخبي بان
:داني شايفها بعيني اللي ها يأكلها الدود بتصرمح مع عساكر الاحتلال
:أنت بس ها تموت عشان ما عبرتكش في البلغة ، آه يا بلد
:البت يا خويا بطنها قدامها متر،
:كلها شهرين وتخلف لكم محتل صغير هي هي هي هي هي
(تتعالى ضحكاتهم)
( تدق الباب ضربات الحصى المتلاحقة)
تتلاحق أمطار أحزانها المكبوتة بداخل صدرها ،قلبها يدق قفصه الحديدي بقوة ،
يريد الخروج ،ينفجر
يصرخ : بريئــــــــة ، بريئــــــة
تتعالى طعناتهم
:البت جوزها ميت من خمس سنين،يعني ترملت صغيرة ،
:يا نــاس يا هـــــوه ياما قلت لكم ستروها
:وهي راضية ما على أيدك جالها عرسان البلد كلاتها ولا واحد رضت به
:ما هي عشان تمشي على حل شعرها
:يا خونا ما تظلموهاش مش جايز عندها انتفاخ هي هي هي هي
( تتعالى ضحكاتهم البشعة )
تحاول المجروحة غلق أذنيها بيديها ، تتعالى أناتها المكتومة بصدرها
تنهمر الدموع تملأ دارها الصغيرة
تسقط المسكينة مغشيا عليها
تتباعد أصواتهم رويدا رويدا
لا تدري كم مر من الزمن و لكن يتهادى إلى سمعها صوت مذياع قريب،يناديها
:بهيــــــــــــــــة *** وعيون بهيــــــــــة
كل الحكـــــــاية ***عيون بهيــــــــــــــة
تفتح المجروحة عينيها ،الظلام يخيم على الدار،
تحاول جاهدة النهوض
تتحسس طريقها إلى مصباح الكيروسين ، تشعله وتضعه فوق الطبلية
تجلس إليها ، تعبث بجوارها ،
تتناول مرآة بالية ، تنظر إلى نفسها
:و ها تفضلي كده لحد إمتى يا بهية ؟
:ما هي الأمور كانت ماشية زي الفل بس حبلك ده هو اللي طينها
:طب ع الأقل سيبي البلد ، شوفي لك حتة ثانية
: مش ممكن ، كلها كم يوم و نعمل عملتنا ،استحملي شويه بدل ما العساكر يكشفونا ،و يضيع تعب السنين اللي فاتت دي كلها
: موت يا حمار، على ما يحصل يكونوا أهل البلد موتوك
:يموتوني؟ليه إن شاء الله؟ فيه حد يجيب لنفسه مصيبة ؟
بينما هي كذلك إذا بهدير يقترب رويدا رويدا ،
سرت قشعريرة بجسدها ،
قفزت كالملدوغة : بسم الله الرحمن الرحيم ، يا رب أستر ، و النبي حبيبك
تصعد مسرعة إلى سطح الدار ، روعها ما رأت ،
المشاعل تضيء الفضاء
ضربت صدرها بكفها ، سقط قلبها الرقيق بين قدميها
: لا ، لا ، مش ممكن ،أكيد حاجه ثانية حصلت
اقترب الهدير أكثر فأكثر
اقترب معه صوتا مدويا
: لو خرجت من أيديكم حية ما تبقوش رجالة ولاد رجالة
:هي النجاسة ها تفضل مسكاكم لإمتى؟
سمعت صوت اصطكاك ركبتيها ، لم تقو المسكينة على الحراك
حاولت النزول مسرعة إلا أن زلة قدميها هوت بها إلى الأرض
اخترقت شعلة سقف الدار ، تلتها أخرى
زحفت جاهدة ناحية الباب ، تحاول بكل ما تبقى لها من قوة فتح الباب العتيق،إلا أنهم أوصدوا الباب من الخارج
تعالى صراخها :حرام عليكم انتم مش فاهمين حاجة
تعالت صيحاتهم: احرقوها ،اغسلوا شرفكم يا ولاد الكلب
: خلونا بقى نرفع راسنا يومين يا ولاد الهرمة
تعالت صيحاتها :عـلــــــــــــــــي ، انجدني يا عـلـــي
توالت عليها النيران من كل جانب ،انزوت المسكينة بركن من أركان الدار تصرخ : يا نـــــــــاس حـــــــرام عليـكـــم
ضاعت صرخاتها هباء ،
النار تلتهم ما حولها ،تتشبث النار بجلبابها ،تصرخ ،
تحاول إطفاء ثوبها ، تفشل ،
تجري كالمجنونة صاعدة إلى سطح دارها - فارة بنفسها – إلا أنه بدأ يتهاوى فوقها ،
وتهاوت فوقها الدنيا بأثرها

***

شاهدت أنا( كاتب هذه السطور)- دون أن أحرك ساكنا- هذا المشهد
لم أنس أبدا رائحة الشواء
لملمت ما تبقى مني وعزمت الرحيل عن هذه البلدة دون رجعة
وعندما أتى القطار
نزل إلى الرصيف سرية من عساكر الاحتلال
وجدت بينهم أحد الفدائيين مكبلا ،
خيل إلي أنني أعرف صاحب هذا الوجه،
لم أصدق عيناي، معقول ؟
نعم هو ،
هو ، (عـلــــــي) ،
نعم ، علي زوج بهية ،
الشهيدة بهية
ترقرقت صورته في عيني ،
لم أقو على تمالك نفسي ، وجدتني أتمتم

:بهيـــــــــة
وعيــــون بهيـــــــــــة
كل الحكايـــــة ، عيـــــون بهيـــة
لم أستطع السيطرة على نفسي ، حاولت وحاولت ،لكن الحزن المحتبس بصدري انفـــجـــر ، فارتججت منتحبا ،
تأخذني ظلمة دوامة الذكرى كلما حاولت تذكر ما حدث بعده

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى