شهادات خاصة مهدي عامل - كلمة شكر الى حسين مروة.. (الجزء الثاني والأخير)

7-

بهذا المنهج نظرتَ الى التراث، فكنت جريئًا في طرحك. واذ خطوتَ به خطوتك الجديدة هذه، أخذ البعض عليك ما لم يقدر على فهمه، من ان التناقض في الفكر حركته، وان الهيمنة فيه هي للنزعة التي تحدده بانه مثالي او مادي، او شكل منهما. لكنك، في بحثك في هذا الفكر عن النزعات المغلوبة فيه، كنت في موقع المغلوبين الذين تجاهلهم هذا التراث الفكري، حتى حين كان، في بعض اشكال او تيارات منه، تعبيرهم، او الصياغة النظرية لما هم عاجزون عن قوله في النظرية. ولا تناقض بين هذا الموقع وذاك المنهج، بل لعل العكس هو الصحيح. فان تنظر في التاريخ من موقع الكادحين فيه او “المستضعفين”، وهم صانعوه، في صراع ضد من هم في موقع السلطة فيه ومن هم بالفعل اسياده، فهذا يفرض عليك اعتماد المنهج الذي اعتمدت، فما تركت الفكر يجري في حركته منفلتًا عن حركة التاريخ الاجتماعي وصراعاته، بل حاولت الربط بين الحركتين، كأنك وجدت في الثانية تفسيرًا للاولى، فأرسيت الفكر على قاعدته المادية التي منها انطلقت في تتبع تطوره، واجتهدت كلما كان الاجتهاد ضروريًا لفهم تياراته وتكوّن مفاهيمه، وما اخافك الاجتهاد هذا، على وعورة مسالكه، وما انكفأت عنه، فاتهمك البعض ممن امتنع عن الاقدام على ما اقدمت عليه من مخاطر البحث والاجتهاد، بالاقتصادية حينًا، وبالميكانيكية او الهيجلية حينًا آخر،لا عن حق، بل لمجرد أنك وضعت الظاهرة الفكرية او الفلسفية في شروطها التاريخية المادية. لذا كان الاتهام موجهًا في الحقيقة ضد منهجك المادي أكثر منه ضد بعض نتائجه، او ضد هذا التفصيل او ذاك منها. وهذا، بحد ذاته، يؤكد صحة منهجك، ويؤكد في الوقت نفسه ان التراث بات مجالاً من مجالات الصراع الفكري الايديولوجي الراهن.

قد تخطيء في تأويل ظاهرة من الظاهرات الفكرية فترى في الصراع بين الجبرية والقدرية، مثلاً، صراعًا بين ايديولوجية الطبقات المسيطرة، فيي العهد الاموي او ما بعده، وبين ايديولوجية القوى الاجتماعية المناهضة لهذه السيطرة الطبقية، وربما رأى غيرك فيه صراعًا بين شكلين متقابلين من أشكال الايديولوجية المسيطرة الواحدة، من حيث هي ايديولوجية دينية. او قد تميل الى حصر ايديولوجية الطبقات المسيطرة في المجتمعات العربية الاسلامية في ايديولوجية دينية مناهضة للعقل، فترى في التيار العقلاني في الفكر الاسلامي تعبيرًا عن ايديولوجية القوى المناهضة لهذه الطبقات المسيطرة، كأن الايديولوجية المسيطرة ترفض كل عقل، من حيث هي ايديولوجية مسيطرة، او كانها ترفض العقل لانها أيديولوجية دينية. ولماذا لا تكون هذه العقلانية في الفكر الاسلامي، كما نراها عند ابن رشد او عند المعتزلة، عقلانية هذه الطبقات المسيطرة بالذات، ويكون هذا العقل، بالضبط ، عقلاً دينيًا؟ وقد تكون الادلة التاريخية التي تأتي بها لتؤكد سيطرة هذا النمط من الانتاج او ذاك في هذه المرحلة او تلك غير كافية، أو قد يشوب بعض أحكامك شيء من التعسف، او قد يكون استخدامك بعض المفاهيم النظرية المعاصرة في مجال الفكر الاسلامي في غير محله، او قد يفلت من سيطرتك عليه هذا المفهوم او ذاك من ادوات بحثك، فيضطرب البحث، او قد تسمح لغتك، او بعض الصيغ فيها، بالتساؤل عن نظرتك للتاريخ هي هي غائيّة او خطّية، او غير ذلك مما هو قابل للنقاش في اكثر من موضع في كتابك.

لكن هذا شيء، والانطالق من بعض تفاصيل البحث وجزئياته التي هي موضع نقاش، للوصول الى التشكيك في منهج التحليل التاريخي المادي للتراث الفكري العربي، ورفض هذا المنهج في مبدئه، شيء آخر. الحالة الاولى طبيعية، إن لم أقل ضرورية، لا سيما في مجال بحثك العريض الذي لا يمتد على مسافة زمنية طويلة فحسب، تبدا من الجاهلية وتصل الى إبن سينا، ثم تطمح الى الانتهاء عند إبن خلدون، بل هو يشمل ايضًا، بضرورة منهجه التاريخي المادي، ميادين معرفية متعددة تستلتزم دراستها، او حتى مقاربتها، الالمام باختصاصات أهمها الاقتصاد والتاريخ والفلسفة، وقدرة السيطرة عليها في تمفصلها الداخلي في حرة الفكر الكلية. فكل بحث من هذا النوع لا يتكامل،اذن، الا بابحاث اخرى يستدعيها نقده وتعميقه في اطار المنهج الواحد. هنا تكمن اهمية بحثك، في انه كان رائدًا، اضطلعت به في مغامرة فكرية ما زالت تنتظر ناقديها حتى تستمر بهم وتتكامل.

أما الحالة الثانية، فغير ذلك تمامًا. انها حالة من حالات الصراع الاديولوجي الراهن، بين فكر مادي صريح في منطلقاته، وفكر ىخر يخجل منها، فيعمل على إخفائها في اشكال مختلفة يظهر فيها مظهر المدافع عن صفاء الفكر المادي تارة، ومظهر المدافع عن خصوصية الفكر الاسلامي تارة اخرى، ويرفض، في كل حال، ان يكون لتيارات هذا الفكر المتصارعة علاقة بالصراعات الطبقية التي تظهر في المجتمعات العربية الاسلامية، او قلل تتحرك فعليًا في اشكال محددة من الصراعات الدنية، بسبب ارتباطها بالقاعدة المادية لهذه المجتمعات، وليس بسبب انفكاكها او استقلالها عنها. بل هو يرفض مبدأ البحث في هذه العلاقة، فيرى في الحبث فيها انحرافًا اقتصاديًا او ميكانيكيًا او غير ذلك في الفكر الماركسي، عليه ان يقوّمه. بهذا التقويم يسحيل الفكر المقوَّم هذا فكرًا، قل عنه ما شئت، لكنه ليس فكرًا ماركسيًا او ماديًا. فلماذا لا يصرح هذا الفكر بمنطلقاته، بدلاً من ان يخجل منها؟ إنه في نهاية التحليل، فكر مثالي، كما سنرى لاحقًا، لكنه يخجل من الاعتراف بذلك، ويرفض ان يقال عنه انه مثالي، لعلمه ان في هذا القول ادانة موضوعية له ولمنطقه. وهو برفضه هذا، يؤكد، من حيث لا يريد، وجود الصراع بين المثالية والمادية في كل فكر، بينما يرفض النظر، في ضوء هذا الصراع في تاريخ الفكر. ولهذا كله دلالة تاريخية بالغة، فما هي؟

8-

لقد مضى زمن كانت الغلبة فيه للمثالية في الصراع بين التزعتين، فكان الفكر المثالي غازيًا مختلف قارات المعرفة، وكان جريئًا في غزوه، مؤكدًا من موقع هيمنته وغلبته طابعه المثالي، معترفًا به. كان فكرًا امبرياليًا، ينظر من علٍ الى نقيضه الفكر المادي، فيرى فيه ابتذال الفكر والمعرفة. إنه زمن الامبراطوريات الافلاطونية او الديكارتية او الكانطية او الهيجيلية. اما الفكر المادي، فهو الذي كان خجولاُ مغلوبًا على امره، مستضعفًا. لذا كان الفكر يتقدم في المعرفة من جانبه المثالي الغازي أكثر منه من جانبه المادي المقهور، وكان الجانب هذا يأخذ، بالتالي، في التعبير اشكال نقيضه. لذا كان النقد ضروريًا للكشف عن نزعات مادية من الفكر هي موجودة فيه في هذه الاشكال المهيمنة بالذات، من حيث هي اشكال وجود الفكر المثالي، والفكر المادي ايضًا. ان هيمنة المثالية في تاريخ الفكر الفلسفي تعني في ما تعنيه، اذن، ان الاشكال المهيمنة التي فيها يوجد نقيضها الذي هو المادية، هي بالضبط اشكال الفكر المثالي نفسه. هكذا كان يطمس الصراع في الفكر بين النزعتين النقيضتين، بوجود الفكر المادي في هذه الاشكال من هيمنة الفكر المثالي فيه، اي بانتفاء استقلاله، وبوجوده اسير علاقة التبعية التي تربطه، في شكل وجوده، اي في بنيته بالذات، بالفكر المثالي. او قل كان الصراع هذا، على الاقل،ملجومًا بينهما، وكان، بالتالي، ملجومًا ايضًا تطور الفكر المادي، بسبب ارتباطه المستمر بعائق تطوره، اي ببنيته التبعية. وما هذا العائق، اذن، سوى التربة النظرية للفكر المثالي التي فيها يتكوّن ويتطوّر ضديًا، لكن تبعيًا. ففي تربة الفكر العقلاني الاسلامي، ومن دخل مشكليته التي هي، قبل كل شيء مشكلة دينية.

وانطلاقًا من القبول بها وليس من رفضها، كانت تتكون عناصر من فكر مادي عند هذا الفيلسوف او ذاك، لكن في صراع داخلي معها يتفاوت من فيلسوف الى آخر. كما ان هذه النزعات نفسها نجدها تعتمل في الفكر الاشراقي الصوفي نفسه، كما بيّنتَ في كتابك. بل لعلنا نجد في هذا الفكر بالذات اكثر مما نجدها في الفكر العقلاني، ونجدها فيه اشدّ وأقوى، اذا احسنّا قراءة الاشكال التي تظهر فيها مقلوبة او متغايرة- كما في الرفض الصوفي للتنزيه المطلق لله، في شهوة الاتحاد به والفناء فيه-كأن حركة تغايرها هي بالفعل حركة سيرورتها في هذا الفكر الصوفي، واذا احسنّا ايضًا ربط حرة الفكر بحركة الواقع الاجتماعي، كما فعلت في فصل التوصف في كتابك.

لكن هذا الزمن الذي كانت فيه الهيمنة للمثالية، بدأ يتغيّر تغيرًا جذريًا في مختلف حقول المعرفة، بحيث ان علاقة الهيمنة في الصراع المستمر بين النزعتين قد انقلبت وصارت بشكل واضح في صالح المادية. لم يات هذا التغيّر، بالطبع، فجاة او مرة واحدة، برغم كونه قد تحقق بثورة فكرية نظرية هائلة، هي بالضبط، الثورة الماركسية. لقد كان لهذه الثورة في مقدماتها المعرفية، كما انها ارتبطت بشروط تاريخية اجتماعية محددة هي الشروط المادية لسيرورة التحول الثوري، من حيث هي سيرورة تقويض الرأسمالية والانتقال الى الاشتراكية. بهذه السيرورة الثورية يرتبط التغيير في علاقة الهيمنة بين النزعتين في الفكر الفلسفي لصالح المادية. لم يعد من السهل على الفكر، اذن، إن كان مثاليًا، ان يُقّر بمثاليته او ان يصرّح بها. سيكون عليه، بالعكس، ان يدفع عنه هذه التهمية، بكل شكل ممكن، حتى يتمكن من متابعة الصراع ضد الفكر المادي المهيمن، او الطامح الى الهيمنة. وكل الاشكال صالحة عنده لمتابعة هذا الصراع: باسم الدين والايمان ضد الكفر والالحاد، باسم الواقع وغناه ضد الفكر وفقره، باسم الحياة وتفاصيلها ضد النظرية وهيكلتها، والابداع ضد كل نظام معرفي، باسم الجدلية ضد الميكانيكية او الاقتصادية او غيرها من الانحرافات، باسم الفرد ضد كل سلطة او مؤسسة، لكونها سلطة او مؤسسة، باسم التراث ضد الآخر بما هو آخر، وباسم الاسم وخصوصيته ضد كل ما ليس هو او هي.

عند هذا الشكل الأخير من سلسلة هذه الاشكال التي بامكانها ان تتابع في حلقات اخرى، اودّ الوقوف قليلاً لننظر معًا في منطق من الفكر ما زال يُحدِث في حقل الصراع الايديلوجي بعض جلجلة.

9-

لقد اخذ عليك البعض ممن يستهويه منطق “الخصوصية” تناقضًا قال انك واقع فيه بين موضوع بحثك ومنهج هذا البحث، فتسائل: كيف يمكن النظر في هذا التراث، وهو اسلامي، بمنهج من الفكر هو غريب عنه او ربما كان نقيضه؟ هل بالمادي نفهم الديني؟ وهل هذا المنهج من التحليل الماركسي صالح للنظر فيه، او قادر عليه؟

هذا السؤال يتضمن جوابه: يجب النظر في التراث بفكر التراث وحده، فلا يفهم الاسلام الا الاسلام، ولا يفهم ابن رشد او ابن خلدون او الفارابي او غيرهم الا ابن رشد او ابن خلدون او الفارابي، فبفكر هؤلاء يجب النظر في فكرهمن وبمفاهيم هذا الفكر دون غيره يمكن ان نفهم مفاهيمه. هذا هو الوجه الاول من الجواب. اما الوجه الآخر، فهو نتيجة له، ويمكن ايجازه كما يلي:كل علاقة يقيمها الفكر الماركسي ومنهجه بالفكر العربي وتراثه الاسلامي هي علاقة خارجية لا يصلح فيها الاول للنظر في الثاني، لأنه ليس منه، غريب عنه، من حيث هو فكر مادي وفكر غربي ايضًا. فالعلة، اذن، هي في ماركسية غربية تحاول ان تفرض نفسها من خارج على خصوصية شرقية اسلامية ترفضها مبدئيصا، اي قبْليًا. وقد يجد بعض المتركسين من هواة “الخصوصية” حلاً تلفيقيًا-هل هو تراثي؟- لهذه المعضلة بالقول ان على الماركسية ان تتأسلم او هي ارادت ان تعيش في دار الاسلام، او ان تصير ماركسية وطنية او شرقية او عربية-إن هي ارادت ان يكون لها موقع قدم وطني في بلاد الشرق او العروبة، اي ان تتخلى عن مفاهيمها الكونية لتدخل في دائرة المفاهيم الخصوصية، وتقطع علاقتها المعرفية بأصل الخطيئة فيها، والخطيئة هذه من أصل غربي.

هل يصمد مثل هذا الفكر للنقد؟

الوجه الاول من الجواب الذي يتضمنه سؤاله يقود، بمختلف الاشكال التي يظهر فيها، الى ابطال كل معرفة بالتارث، فينحصر النظر في التراث عنده في تكرار رتيب لعناصر الفكر التراثي، لينغلق فيه الفكر هذا على ذاته انغلاق الجوهر على الجوهر، ويفلت بالتالي، من زمن التاريخ الذي هو زمن التغير والتحول في صراع الاضداد وعلاقة الاختلاف التي تتمفصل فيها بعضًا على بعض، ليدخل في زمن اسطوري يتجوهر فيه، اذ هو يتنمذج. فالنموذج لا يعرف الا حركة واحدة هي حركة تكرار ذاته، او حركة اعادته في نُسَخ عنه. هكذا يتكرر التراث في دراسات الا تنتج معرفته، بل تعيد ما قاله الاسبقون. وهل في اعادة القول انتاج لمعرفته؟ قد يكون من المفيد للقارىء ان نشرح له أفكار هذا الفيلسوف او ذاك من الفلاسفة العرب او غيرهم. ولكن معرفة التراث لا تنحصر في هذا الشرح، على اهميته وفائدته العلمية. انها عملية أخرى مختلفة وأكثر تعقيدًا. وهنا يكمن الجديد في منهجك، وهذا ما بيَّنته لنا بالتفصيل في مقدمة كتابك.

تقول في مقدمة كتابك ان التراث شيء، ومعرفة التراث شيء ىخر، ولا يصح الخلط بينهما. فمشكلة التراث ليست إحيائه او في العودة اليه-وفي الحالتين استحالة- بل هي في انتاج المعرفة العلمية بهذا التراث الذي هو موضوع معرفة. وفي هذا طرح جديد يختلف جذريًا عن كل طرح سابق يرى في التراث نموذجًا يجب تقليده او الاهتداء به او استلهامه، او يفرض على الحاضر، باسم الاصالة والامانة للذات، ضرورة ان يكون امتدادًا للتراث يعيد اليه استمرارية تاريخية كانت قد انقطعت في فترة زمنية معينة، او يرى في التراث عناصر ينتقي منها ما يخدم الحاضر، ويسقط منها ما لا يخدمه، فيشوّه التراث والحاضر معًا. ولعل أخطر طرح لمشكلة التراث هو هذا الطرح الذي يبحث في الماضي وفي عناصره التراثية عن مبدأ تفسير الحاضر، فيجد، مثلاً، في فكر الغزالي ونظام مفاهيمه مفتاح فهم الفكر العربي المعاصر، من حيث ان الفكر الديني واحد في الاثنين، وهو فيهما المسيطر-او السائد- في تماثله بذاته، متكررًا لا يتغيّر، على امتداد الف سنة او اكثر، برغم تغير الشروط المادية التاريخية واختلافها؛ او يرى الى الواقع الاجتماعي العربي الراهن بعين المفاهيم الخلدونية، كأن التاريخ لم يعرف في بلادنا شيئًا اسمه الرأسمالية او الامبرالية او التحرر الوطني او سيرورة الانتقال الى الاشتراكية.

تشترك هذه الاشكال المتعددة من طرح مشكلة التراث في انها، كلها، تغيّب علاقة الاختلاف بين الماضي والحاضر، وتقيم بينهما علاقة من التماثل يكرر الحاضر فيها الماضي، او يظهر كانه امتداد خطّي له. وفي هذا، كما قلتُ، تشويه للاثنين معًا.

10-

ضد هذا التشويه السائد في الدراسات التراثية يرتسم منهجك، وضده تسير في محاولتك الجريئة، مؤكدًا ان العلاقة بين الحاضر والماضي هي علاقة اختلاف تقيم بينهما مسافة مادية هي في اساس بينة الزمن، فلا سبيل الى محوها الا بالوهم، او باحلال الاسطوري محل الواقعي، او باسقاط الحاضر على الماضي، بحيث يغيب هذا في صورة ذاك، او بتغييب سحري للحاضر نفسه لا يبقى فيه سوى الماضي، او نموذج منه يتكرر. ولا سبيل الى النظر في التراث الا من موقع محدد في الحاضر، فبفكر هذا الحاضر يُنظر الى التراث، وليس بفكر تراثي. هكذا تبقى المسافة قائمة تؤكد الاختلاف بين فكر تراثي وفكر ينظر فيه من موقعه في الحاضر. لكن هذا الموقع ليس واحدًا، وليس التراث ايضًا واحدًا، بل هو متعدد بتعدد مواقع النظر فيه، مختلف باختلافها. لذا كان التراث مجالاً من مجالات الصراع الطبقي الايديولوجي المحتدم في المجتمعات العربية المعاصرة. فالنظر في التراث يبدأ فعليصا من النظر في الفكر الناظر فيه. والفكر هذا لا ينتمي اليه، بل الى الحاضر، وهو الذي يحدده، بحسب الموقع الذي يحتله في الحقل الايديولوجي الراهن للصراعات الطبقية.

التراث موضوع معرفة، والمعرفة هذه تنتج بادوات محددة لا يملكها التراث، بل الفكر الي ينتج هذه المعرفة التي تختلف باختلاف ادوات انتاجها. هذه الادوات هي جهاز المفاهيم النظرية الذي بدونه ينشلّ كل فكر، فلا يعود قادرًا على ان يشتغل موضوعه-المادة الاولى- فينتج معرفته. إن الفكر الذي يأخذ عليك اعتمادك منهج التحليل الماركسي في النظر في التراث، ويرى تناقضًا بين هذا المنهج والفكر الاسلامي، موضوع بحثك، هو فكر يجهل، بكل بساطة، ان التراث موضوع معرفة، وان المعرفة هذه تُنتَج،وان سيرورة انتاج المعرفة سيروة معقدة تتمفصل فيها عناصر متعددة من اهمها، إن لم نقل اهمها على الاطلاق، هو عنصر ادوات الانتاج. هنا تكمن شرعية منهجك، في هذه الضرورة الموضوعية في استخدام المفاهيم النظرية كادوات لانتاج المعرفة العلمية بالتراث. وكل باحث معرّض وربما كانت هذه الاخطاء نتيجة لتأويل قد لا تحتمله بعض المفاهيم، او قد يكون مضرّاً بها او مبتعدًا بعض الشيء عن اطارها النظري. وكل بحث يتضمن بالضرورة تأويلاً معينًا لمفاهيم هي ادواته، فتختلف حينئذٍ نتايج هذا البحص باختلاف هذا التاويل من باحث الى آخر، لمفاهيم واحدة. هذا امر طبيعية يدخل في منطق البحث بما هو بحث. لكن هذا شيء، وشيء آخر القول بضرورة الاّ ننظر في الفكر الديني، مثلاً، او في الفكر الاسلامي الا بفكر ديني او اسلامي، او الاّ نستخدم، في النظر فيه او في غيره، من المفاهيم الا ما هو ينتمي الى جهاز مفاهيمه الخاص. فهذا قول ليس فيه من العلم سوى الجهل به.

11-

يبقى سؤال يقود الى الوجه الآخر من النقد: لماذا المفاهيم النظرية الماركسية، دون مفاهيم نظرية غيرها؟ ما الذي يفرض على الباحث أن يأخذ بمنهج التحليل الماركسي، ولا يأخذ بمنهج آخر من التحليل، في انتاجه معرفة التراث؟

بهذا السؤال ندخل في حقل آخر من البحث لا ينحصر في حقل الدراسات التراثية، بل يتضمنه ويشمل حقولاً أخرى، من بينها حقل دراسة الواثع الاجتماعي العربي الراهن. هواة “الخصوصية” يقولون، باختصار شديد، ان الماركسية غير صالحة لفهم واقعنا هذا في ماضيه وفي حاضره، وبالطبع في مستقبله ايضًا، لانها “برانية”، اي لأنها من نتاج “الغرب”. يقولون هذا عن الماركسية، ولا اعلم إن كانوا يقولون الشيء نفسه عن البنيوية او الفينومينولوجية او السيميولوجية او التحليل النفسي الفرويدي او اللسانية (الألسنية) او الفيزياء النيوتونية او الفيزياء الاينشتاينية او كيمياء لافوازييه او الكيمياء العضوية، او البيولوجيا الحديثة او غير ذلك من ميادين العلوم الطبيعية والاجتماعية الحديثة وتياراتها، وكلها علوم “برانية” ينطبق عليها مفهوم “الغرب”. هل يقولون هذا الذي لا يقوله حتى جاهل احمق؟

أما لماذا منهج التحليل الماركسي؟ فلأسباب عديدة نراها متشعبة في كتابك، منها انه يتلائم بالفعل مع موضوع بحثك، لانه منهج تحليل مادي. ومنها ايضًا انه وحده دون غيره يسمح بتحرر الفكر العربي الاسلامي من أسره في عالم الغيب الذي فيه يرى عالم الواقع المادي ويحاول فهمه. إنه، بتعبير آخر، يسمح للفكر المعلّق في سماء تصوراته وتجريداته بان يعيد اكتشاف القاعدة المادية التي منها انطلق، فيتعرّف نفسه بعد ان كان ينسى نفسه، او ينسيه إياها فكر مثالي. لماذا لا يكون لفكر التوحيد قاعدته المادية؟ من الارض يخرج هذا الفكر، لا من السماء، برغم ان السماء هي، لوعيه وفي وعيه، أصل له. ومتى كان الشيء كما في الوعي، او في شكل منه، يتماثل به؟ هذا هو الفارق بين فكر مثالي يؤكد أن الاشياء بوعيها، فيعجز عن انتاج معرفة التراث، لان التراث عنده هو الشكل الذي يعي فيه التراث ذاته ويرى فيه اليها، وبين فكر مادي هو قاعدة لكل فكر علمي يؤكد الاحتلاف بين الشيء ووعيه، فلا تماثل بينهما، بل تناقض، الشيء فيه هو، في حقيقته المادية الفعلية، غير الشكل الذي يظهر فيه للوعي المباشر، ان لم يكن نقيضه. لذا كان الوجود الاجتماعي المادي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي واشكاله، وليس العكس.

من هذا الفكر انطلقتَ،إذن، في محاولتك انتاج معرفة التراث، ومنه انطلقت لتؤكد، في ملموس، بحثك ، ان الفكر الثوري للطبقة العاملة هو القادر على التملك المعرفي للتراث، من موقع اختلافه مع ما سبقه من أفكار، لانه هذا الاختلاف نفسه، ولان هذا الاختلاف أساسي لذلك التملك المعرفي، ولأن الطبقة العاملة وريثة كل ما هو ثوري في التاريخ. لهذا الفكر طابع علمي، لأنه، بالضبط، فكر ثوري. والفكر العلمي، بما هو فكر علمي، له طابع كوني، ولا يصح فيه القول غنه شرقي أو غربي او شمالي او جنوبي، الاّ عند من بيس له من العلم سوى الجهل به، وبالتالي، العداء له. ليس مثل هذا الفكر الظلامي وريث التراث، حتى لو ادّعى ذلك، وزاد فقال إنه فكر اسلامي. ما كان الفكر الاسلامي في تراثه ظلاميًا. هذا ما بيّنتَه في كتابك. وبيّنتَ طموح هذا الفكر الى التحرر والانعتاق من كل ظلم ومن كل ما هو ضد العقل وضد العدل، ليس في تياره العقلاني وحده، بل في تياره الاشراقي ايضًا. ربما يجب القول: لا سيما في تياره الاشراقي الصوفي هذا الذي يظهر فيه بوضوح، مأساوي، طموح هذا الفكر الى التغيير الثوري لنظام الاستبداد. في هذا الفصل بوجه خاص، في فصل التصوف، يعطي منهج التحليل الماركسي ثمارًا جميلة.

فشكرًا لك على ما زرعت في حقل الفكر العربي المعاصر من شجرة جديدة ما عاد بإمكان احد من الباحثين الاّ ان يرى اليها في بحثه ويستدلّ بها. شكرًا لك أبا نزار، وألف تحية. ها نحن بانتظار دراستك المقبلة.


* المصدر:”ازمة حضارة ام ازمة البرجوازيات العربية؟”-مهدي عامل-دار الفارابي-الطبعة الثالثة 1981-ص.ص.237-258

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى