إبراهيم محمود - قل والله العظيم أقول الحق!.. فكر ونقد

لا بد أنكم تستدعون على الفور مكان هذه العبارة وزمانها والتي صيرتْ عنواناً للمقال. تُرى، ما نوع العلاقة بين القائل لها والمخاطب بها والوسيط؟ هل حقاً أن كل الذين يطلَب منهم، عند الإدلاء بشهادتهم، يقولون الحق؟ ما هو هذا الحق الذي يُسمى، ومن يرعاه، وأين تصريفه ؟
بالتوازي مع هذه العبارة، لا بد أننا نعلم، وبسهولة، أن هناك يومياً آلاف الحالات من هذا النوع في محاكمنا، وإن ذكرنا العالم الإسلامي ، وهي المعنية بالخلل الحاصل فالرقم يغدو مريعاً.
مقصد الكلام هو في صيغة هذا السؤال: لو أن هذا القسَم كان في موضعه، أن الذين قالوا الحق في شهادتهم صدقوا، أترانا كنا ننتهي إلى ما انتهينا عليه، وما نحن فيه من تشظٍّ؟
لن أتحدث هنا بصيغة القائل الاستفسارية: هل نحن مسلمون حقاً لنتشرذم هكذا؟ لأن مسوّغي الوحيد في ذلك، هو أن قولاً استفسارياً من هذا القبيل، يعني تبرئة الإسلام في تاريخه الفعلي من كل ما يمكن قوله فيما نحن عليه أو انتهينا إليه" وأقول الفعلي: أي التطبقي، رغم أن هناك إشكالاً في النص وكيفية إدارته بمغذيات فقهية مندغمة بالسلطة، ويدعم الفعلي"، وحجّتي التالية هي أن من يقرأ الأدبيات التاريخية: العربية – الإسلامية ، من الطبري واليعقوبي والمسعودي، مروراً بابن الأثير وابن كثيراً وليس انتهاء بابن خلدون في تاريخه طبعاً، لهاله هذا التاريخ وضحاياه وموقعهم ، ذلك، ومن بعض الجهات، يصل اليوم ليس بالأمس القريب، إنما البعيد، إلى ما قبل الإسلام نفسه، كما لو أن الزمن في عمومه ذو بعد واحد ومراقَب بإتقان .
هذا يدفع بنا إلى تحرّي بنية العبارة ومن له علاقة بها، وهي بصيغتها الأمرية:
الذي يمثّل القضاء، وما إذا كان معنياً بالحق بوصفه الحق الذي يعلو كل القيم الأخرى ويشدها إلى بعضها بعضاً، وأين يستمد مرجعيته في تسمية الحق وموضعته، وما إذا كان هذا الذي يتقدم ليقول الحق وقد أقسم عليه، عالماً بخصوصيات الحق ذاك، وكيف ينبغي أن يعيشه داخلاً، أم أن هناك سلطة أخرى تعلو سلطة ما يُسمى بـ" الضمير/ الوجدان " وأي جهاز سياسي يديرها، ولصالح من يتم يجري نسج أو يتمشهد هذا الجانب، علينا أن نقتفي آثاراً لا تكشف عن موطىء قدم الفاعل الرئيس، عن وجهه المقنَّع رغم وضوحه، عن أيد لا تني ترتّب أوراق مصائر شعب أو تاريخ يعنيها براغماتيكياً دون أي تردد، أي محاكمة أخلاقية داخلية لما تقدِم عليه.
إنها أطراف تتحرك من مواقع مختلفة، ولكل طرف تصور مختلف عن الحق، وعن الآخر، وعما يقدِم عليه، حيث إن " مسرحة " القول تتعطى المكان المؤطر باسمه ورسمه .
لنذكّر هنا، أن من الناس من هم بسطاء، حيث إنهم كلما ذكِر القرآن، تتملكهم رهبة، ويقولون عن أن الذي يحلف به كذباً، سوف يصاب بالأذى في الحال، كما هي ثقافة الوسط الشعبي.
إزاء ذلك، لو أن الذين يقولون الحق كذباً، لأكثر من سبب، وقد كثرت الأسباب وتنوعت في عالمنا الراهن، قد أصابهم أذى " غيبي "، لكان العالم الإسلامي، وحيث خرج الإسلام بالذات، في وضع مغاير تماماً: أي أرباب الفساد وتوابعه، الاستغلال المتعدد المقامات وتفريعاته، التدليس الديني والتقيوي بدءاً من الجاري في " بيت الله " رغم أن كل ما هو مخلوق أرضاً وكائنات حية وجمادات ملك لله/ بيته المفتوح دون سقف، وهذا يفصح عن مدى سوء التقدير بما هو " مقدس "، وأن الذين يقسمون زوراً، ودون أن يرف لهم جفن، يكونون حرّاساً معلّمين في وضعيات كهذه، بينما الناس الغلابة أو البسطاء، فهم من يعيشون هذا الخوف، إنما يجري استغلالهم بالمقابل، ذلك يعزز من الدافع المعرفي المقاوم للكشف عما يدفع بالناس وهم يشهدون كذباً لصالح من يحتكرون كل شيء، ومقام " النيّة " بمفهومها الديني وكذلك الفلسفي داخلهم.
يعني ذلك أن عرّابي قضايا من هذا النوع، ينمون رأسالهم باضطراد، وليس لديهم أي رابطة بما هو جار من حولهم بالمفهوم الاجتماعي، السياسي والأخلاقي، وهذا ابتزاز مضاعف: ابتزاز اجتماعي من خلال المسمى بـ"شراء الذمم " وابتزاز ميتافيزيقي، وخلوّهم من الخوف الخفي !
تعلّمنا العبارة تلك بما يتم تغافله أو السهو عنه، إنه الاستثناء للقاعدة، لكنه واقعاً: القاعدة الكبرى لاستثناء أخطبوطي تتم تغذيته من كل ما يمكن التحكم فيه .
ذلك ما يمكن النظر فيه من خلال هذا المرئي الرعاعي في التحشدات الدينية وكيف تراعى، ومن على المنابر المفتوحة: في الجوامع والساحات، والمسيرات المنتظمة والموجهة، والقنوات التلفزيونية والبرامج المقدَّمة، والوعود المعسولة لمن يُسخَر منهم مباشرة، بمثابة أرصدة تتضاعف بالنسبة للقيمين على خطط برمج الجماهير وجعْلها غريزية- غضبية في أفضل الأحوال، لتبقى القوة العقلية بحاكميتها الاحتوائية راسمة النقاط التي يتموضع فيها الحق، وتلك التي لا ينبغي أن يُسمى فيها هذا الحق، وكيف يجب أن يقال الحق تهجئة، كيف يجري إعرابه النفسي والاجتماعي، وكيف يُبث على الملأ كلمات وتجويدات مطعمة بما هو ديني، وما يترتب على ذلك من تفعيل الأثر المروّع في نفوس الملايين: أن يتبرأوا من أنفسهم، ويكونوا حرباً وطيساً عليها لأنها سبب المصائب التي تعيشها أمتهم المبتدعة: الإسلامية، أو مجتمعاتهم التي تستعصي على التكوين المؤسساتي بذريعة وجود نعمة لا تقدَّر يحاربها أعداء الإسلام، هي في كون أفرادها القطيعيين مؤمنين بالله الواحد الأحد ومتحلقين حول ممثلهم المفوض إلهياً .
ذلك يلغي أو يعدم كل رابطة بين الوعي الفردي ومفهوم الحق ونسبته في الروح القائمة.
ذلك يعني من حيث المرجعية أن هناك، وعلى أكثر من صعيد، وبصورة مشرعنة، متاجرة بـ" الأرواح الميتة " أو هي قيد الموت المتعدد الأشكال. أن الحق الذي لم يتمكن من النفوس، ولم يعلُ المعايير المعتمدة مجتمعياً، يبقى رهن التسويقات المطبوعة بما هو سلطوي.
بالطريقة هذه يتم التحويل المباشر للحق إلى ما هو شخصي بدءاً من أعلى ممثّل سلطة إلى من ينوبه في مواقع مرتبطة ببعضها بعضاً، تروَّض فيها ذمم وقيم وهمم بصيغ شتى !
ذلك يعني أن أي حديث عن مفهوم المحكمة " وما يشدها إلى الحُكم- الحِكمة " منزوع الصلات بما هو اعتباري على مستوى القيم المثلى، وفي ذروتها: الإنسان بالذات .
لا يعود قول الحق إلا ما يكون نعياً له، والذين يحضرون القسم أو المشهد المقاضاتي ليسوا أكثر من كومبارس مأسوي صامت يسخنون في داخلهم، لينضجوا بمقاييس المتحكم بمصائرهم إجمالاً،وأكثر من ذلك إذ يتلقون الدرس بالصوت والصورة لما يجب أن يكونوا عليه طواعية.
ربما بالترادف يمكن مكاشفة دلالة من يقسم يومياً مراراً وتكراراً، في وسطنا الاجتماعي، وفي أحاديثنا المعتادة بأكثر من قسم : والله وبالله وتالله، إلى جانب أنبيائه ورسله وأوليائه، وربما يحضر القسم برأس أعز ولد له، أو بعمره أو شبابه، وبسواه وفي أمر عرَضي...إن في مقدور سيكولوجيا الأعماق وتاريخ الثقافة المحيطية والمحلية إفادتنا بالكثير لحظة النظر في كل ذلك، حيث يصعب التفريق بين هذه الحالة وتلك، وكيف تتشكل الصورة الفعلية لكل طرف !
ذلك يذكّر هنا بما كتبه قصير العمر طويل الأثر اتيان دي لا بويسي" 1530-1563 " في كتابه التحفة " مقالة في العبودية الطوعية "، عن كيفية تفعيل إرادة اشتهاء الموت في نفوس الملايين بطرق من هذا القبيل، لنكون إزاء تخريج آخر لمفهوم " القرابين البشرية " المتجدد، وأنا هنا أورد قولاً لبويسي " إن النبل المتمثل فينا نحن البشر كبير حتى إنه يجعلنا مرغمين غالباً على الخضوع للقوة . ص 194: طبعة المنظمة العربية للترجمة " .


إبراهيم محمود

تعليقات

لقد كتبت - من وجهة نظر قانونية- مقالا أو منشوراً لا اذكر ، عن هذا الموضوع شديد التعقيد ، هذا الأمر (مسألة القسم أمام المحكمة) ، له خطر كبير ولم يدرس حقاً بشكل علمي ومنهجي رغم أن القسم ومحل القسم (اثبات او نفي حق) يعتبر أحد أدلة الاثبات التي تتمتع بقوة كبيرة عند اصدار الحكم القضائي ، (لاحظ هذه المفارقة ، حينما يبنى الحكم باعدام انسان أو نزع ممتلكاته او سجنه ...الخ) على مجرد قسم بقول(أقول الحق). لذلك فجملتك هذه جوهرية جدا ( والذين يحضرون القسم أو المشهد المقاضاتي ليسوا أكثر من كومبارس مأسوي صامت يسخنون في داخلهم) ، القانون يعطي جملة (أقول الحق) قيمة أكبر من حقيقتها ، ولذلك يقول فقهاء القانون وهم في سبيل التعرض لنسبية العدالة ، أن القاضي يهتم فقط بالحقيقة القانونية وليس بالحقيقة الواقعية. وهذا المبدأ محرج جداً لمن لديهم مفاهيم مثالية عن العدالة.
 
لقد كتبت - من وجهة نظر قانونية- مقالا أو منشوراً لا اذكر ، عن هذا الموضوع شديد التعقيد ، هذا الأمر (مسألة القسم أمام المحكمة) ، له خطر كبير ولم يدرس حقاً بشكل علمي ومنهجي رغم أن القسم ومحل القسم (اثبات او نفي حق) يعتبر أحد أدلة الاثبات التي تتمتع بقوة كبيرة عند اصدار الحكم القضائي ، (لاحظ هذه المفارقة ، حينما يبنى الحكم باعدام انسان أو نزع ممتلكاته او سجنه ...الخ) على مجرد قسم بقول(أقول الحق). لذلك فجملتك هذه جوهرية جدا ( والذين يحضرون القسم أو المشهد المقاضاتي ليسوا أكثر من كومبارس مأسوي صامت يسخنون في داخلهم) ، القانون يعطي جملة (أقول الحق) قيمة أكبر من حقيقتها ، ولذلك يقول فقهاء القانون وهم في سبيل التعرض لنسبية العدالة ، أن القاضي يهتم فقط بالحقيقة القانونية وليس بالحقيقة الواقعية. وهذا المبدأ محرج جداً لمن لديهم مفاهيم مثالية عن العدالة.
حول تعليق أخي أمل الكردفاني على : قل والله العظيم أقول الحق
كان ذلك مجرد انطباع سريع في موضوع يتقاسمنا من الجهات كافة، والقانون بمفهومه الفعلي وضعي، مهما كانت مرجعياته، ومن الصعب قول النقيض وهو أنه حتى تاريخه وضِع لشرعنة سلطة الأقوياء في الضعفاء، والسلطة أكثر من كونها سياسية، إذ ربما يفعّل أحدنا وهو في غاية التنوير قولاً وفعلاً، ما يشبه سلطة القانون على نفسه، فلا يكون محرَّراً كما ينبغي..بإيجاز شديد: نحن لدينا ألسنة تكفينا للتعبير عما نريد، وثقافات توفّر في بنيتها ما يفيدنا لنكون أفضل، وموارد تفيض حتى عن حاجاتنا لحظة النظر الحسابي إليها، لكنه الاغتراب العميق الذي يفتّت في ذات كل منا، حتى لو كان طاغية، فيمضي في طغيانه حتى يقضى به، حتى لو كان زاهداً في الدنيا فيتضاءل مقامه ودوره الحياتيين، وليلتقي القانون الأكثر زعمَ مدنية والقانون الأكثر تمثيلاً لما هو تراتبي، وينعدم المجتمع كمفهوم فعلي ....
شكراً لمتابعاتك الدقيقة مجدداً.. ويستمر الخطأ الممدوح!


إبراهيم محمود
 
أعلى