عباس محمود العقاد - بين الروحانية والمادية

(... وعلى سبيل الاستفسار أوجه إليكم الأسئلة الآتية بعد قراءة ردكم على نقد الأستاذ إسماعيل مظهر لكتابكم عن الله راجياً أن تتفضلوا بالإجابة عنها في الرسالة الغراء

1 - أليس هناك وجه من الصواب في وجوب التفرقة بين الوجود والموجود وبين العدم والمعدوم في الكتابات الفلسفية؟ فإن الكاتب الأديب قد يجوز له أن يستعمل إحدى الكلمتين بمعنى الأخرى من قبيل التجوز المقبول في الكتابة الأدبية. ولكن هل يقبل ذلك في لغة العلم والفلسفة؟.

2 - هل من الضروري أن يخلق العالم الطبيعي خليقة حية ليقول إن النواميس المادية تتسلط على الحياة؟ ألم يصنع العلماء مادة البروتوبلاسم التي هي مادة الحياة ولا يبقى إلا الزمن لتشبه هذه المادة المصنوعة مادة الحياة؟ ألا يحق لنا في العصر الحاضر بعد كشف الذرة أن نقول إن العلم قد وضع سر المادة في أيدي العلماء. . . الخ الخ).

الإسكندرية

صابر. م

أما في مسألة الوجود والموجود والعدم والمعدوم فالأديب المستفسر قد عكس الأمر فطلب في لغة العلم والفلسفة ما يطلب من الأديب، أو طلب من الأديب ما يطلب في لغة العلم والفلسفة

وقد جرت المناقشة في هذا الموضوع من قبل بين الرازي والصابوني فقال الإمام الرازي في مناظراته: (إن كان غرضك إظهار الفرق بين التكوين والمكون بحسب اللفظ والعبارة فإنه يقال كوَّن يكون تكويناً فهو مكون وذاك مكون، فالتكوين مصدر والمكون مفعول، والفرق بين المصدر والمفعول معلوم في اللغات. إلا أن الفرق الحاصل بحسب اللغات لا يوجب الفرق في الحقائق والمعاني. ألا ترى أنه يقال عدم يعدم عدماً فهو معدوم، فالعدم مصدر والمعدوم مفعول وذلك لا يوجب الفرق بينهما في الحقيقة).

فالفلاسفة هم الذين سوغوا استخدام كلمة الوجود بمعنى الموجودات، ولم يمتنع ذلك ف اللغة لأن شواهد هذا الاستخدام متكررة في كل مقام.

وقد نجاري الأديب المستفسر عن رأيه في خلق الخليقة الحية فنقول إن العالم الطبيعي لا يطالب حتماً بخلقها في المعمل ليجوز له أن يقول إنها قوة مادية وليس فيها زيادة على القوة المادية.

ولكنه يطالب حتماً بمعرفة العلة التي تفرق بينها وبين الذرة المادية ليقول إن هذا الفرق من المادة وليس من شيء غيرها. أما أن يجزم بمصدر هذه العلة وهو لا يعرفها ولا يستطيع أن يصفها فهذا هو الإدعاء بعينه وليس هو العلم الطبيعي المزعوم.

وإذا كانت المصانع قد أخرجت مادة البروتوبلاسم التي هي مادة الحياة كما يقول الأديب المستفسر فهذه المصانع قد أثبتت أن للحياة سراً غير سر المادة ولم تثبت أن الحياة كلها من المادة وإليها؛ لأن البروتوبلاسم الذي أخرجته المصانع لا يتغذى ولا يتجدد ولا يتحرك كما تفعل الخليقة الحية. فهو إذاً (بروتوبلاسم ناقصاً للحياة). . . وبقي السؤال قائماً كما كان: ما هي الحياة؟.

أيقول الأديب المستفسر إنه من فعل الزمن الطويل؟ لقد قال ذلك فعلاً حين قال إنه لا يبقى إلا الزمن لتشبه المادة المصنوعة مادة الحياة).

فمن الواجب أن نذكر هنا أننا نسأل: ما هي الحياة؟ ولا نسأل في كم من الزمن نشأت الحياة؟.

وهي سواء نشأت في دقيقة واحدة أو في عشرين مليون سنة شيء له حقيقة، فما هي هذه الحقيقة؟

على أن الزمن الطويل عنصر داخل في تركيب المادة التي نعرف ما بينها من الفروق والمشابهات.

فلماذا نعرف الفرق بين الحديد والنحاس وقد مضى على تكوينهما ألوف السنين، ولا نعرف الفرق بين البروتوبلاسم الحي والبروتوبلاسم الذي تخرجه المعامل ويصنعه العلماء؟

أقل ما ينبغي للعالم الذي يصون كرامة علمه أن ينتظر ويؤجل حكمه، لا أن يجرم بحقيقة شيء لا يعرفه ولا يستطيع أن يعلل الفرق بينه وبين غيره من الأشياء.

ومن الإدعاء البعيد أن يقال إن كشف الذرة قد وضع سر المادة في أيدي العلماء، أو قد خولهم أن يفسروا كل ظاهرة من ظواهر الوجود بالقوانين المادية

فإن أسرار الذرة قد صنعت نقيض ذلك على خط مستقيم، وقد عمدت إلى الحتمية للأسباب المادية - أو القوانين المادية - فعصفت بها عصفاً لم يستقر لها من بعده قرار.

وليس هذا الكلام مستمداً من مذاهب الفلاسفة أو مذاهب رجال الدين أو فروض الأدباء والهواة في المسائل العلمية، ولكنه مستمد من مباحث أقطاب العلم الطبيعي الذين أسسوا قواعد البحث في الطاقة الذرية وفي تركيب المادة وقوانين الإشعاع.

فالعالم الكبير ماكس بلانك صاحب نظرية الكوانتم التي بنيت عليها المباحث الذرية، وصاحب جائزة نوبل للعلوم الطبيعية في سنة 1918 يقرر أن حركات الكهارب لا يسيطر عليها قانون معروف، وأنك لا تستطيع أن تتنبأ عن اتجاه الحركة التالية لكهرب من الكهارب حول النواة، وهذا هو عنصر المادة الأصيل يغلب فيه القول بالمشيئة على القول بالحتمية المادية. فكيف يمكن أن يقال مع هذا أن كشوف الذرة قد أبطلت القول بالإرادة الإلهية ووضعت سر الكون كله في أيدي العلماء؟

إنها لم تضع سر الذرة نفسها في أيديهم وهي أصغر ما في الكون من مادة؟ فكيف تضع في أيديهم سر الكون كله وتنفي منه فرض المشيئة الإلهية التي تسيطر على كل (حتمية مادية) كان يدين بها العلماء قبل الآن؟

والعالم الكبير هيزنبرج متمم بحوث بلانك وصاحب جائزة نوبل للعلوم الطبيعية عن سنة 1932 يعلن نقض (الحتمية المادية) ويقرر أن التجارب الطبيعية لا تتشابه في النتيجة وإن اتفقت الأدوات واتفقت المواد واتفق المجربون. فكيف يقال إن (دور) المشيئة قد بطل كل البطلان ولم يبق للكون من أسباب غير ما يزعمونه من النواميس؟

والعالم الكبير إدنجتون من أكبر الباحثين في الكهرباء والطبيعيات يعقب على هذا فيقول (إنني لا أحسب أن هناك انقساماً ذا بال في الرأي من حيث تداعي الأخذ بمذهب الحتمية المادية. فإن كان هناك انقسام فهو الانقسام بين الآسفين لتداعيه والمغتبطين بتداعيه. والآسفون بطبيعة الحال يرجون له عودة ولا يستحيل أن يعود. ولكنني لا أرى سبباً لتوقع عودته في أي شكل وفي أي صورة).

وهؤلاء جميعاً علماء طبيعيون، وهم جميعاً مختصون بالموضوع الذي يحكمون فيه وهو تركيب المادة. بل هم جميعاً من مؤسسي البحوث في هذا الموضوع.

فأيسر ما يؤمن به الرجل المحقق بعد هذا أن المسألة جليلة مهولة بعيدة الأغوار، وأنها ليست من المسائل التي يفض فيها الإشكال بكلمة وتصرف الاعتراضات فيها بجلسة مريحة بين المحابر والأوراق أو بين المصانع والأنابيب.

وإذا كان هناك فرض أرجح من فرض في مجال المباحث العلمية الحديثة فذلك هو الفرض الذي يعزز الإيمان بالمشيئة الإلهية لأن هذا المجال قد رجع بأصل المادة كلها إلى الاختيار، ورجع بالقوانين المادية كلها إلى سلطان غير سلطان القوانين المدعاة.

فإن لم يكن ترجيح فليكن تريث وانتظار.

أما الجزم بالمزاعم المادية بين هذه الكشوف المتجددة فهو (إيمان مقلوب). . . لأن إيمان العجائز يقوم على أسباب أقوى من الأسباب التي يقوم عليها هذا الإيمان المقلوب. . . أو هذا الإنكار الجازم بلا أسباب!!

عباس محمود العقاد


مجلة الرسالة - العدد 737
بتاريخ: 18 - 08 - 1947

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى