إبراهيم محمود - كافكاي أنا

حفَّزني أخي الكاتب حيدر سالم، وقد لفت نظري تناوله لما يمكن تسميته بحضور كافكا في الأدب العربي فالعراقي ضمناً، في أكثر من مقال له منشور في موقع " الأنطولوجيا " لأن أنوه بمناخات تناولي لكافكا في بحث لي ونشْره في مجلة " عالم الفكر " الكويتية " عدد2، 1984 " وتحت عنوان " الاغتراب الكافكاوي ورواية المسخ نموذجاً "، وكان كتاباً كاملاً لم يتسن لي نشره حتى الآن، ولعل إشارات الكثيرين إليه في مراجع تخص هذا الموضوع تؤكد ذلك .
ومسوّغ التحفيز هو محاولة إنارة بعض إشكالات الكتابة، وما أخطرها في هذا السياق التجاذبي!
ربما كانت الأجواء المحبطة للآمال، وعلى أوسع نطاق لشعوب المنطقة " والعربية ضمناً كذلك " جرّاء سياسات الأنظمة الفاشلة، وإماطة اللثام عن الوجه الكالح لها وكيفية تضبيع ومن ثم تقزيم صورة الإنسان الفعلية في ذات كل مقيم هنا الهدف الرئيس لها وليس التصدي لمشاكل الداخل، ومجابهة الأعداء، فالعمليتان متكاملتان، أي كيفية: إدارة الأزمة وتنمية العنف المستدام" ربما كانت الأجواء تلك فاعلة في توليد موضوعات كهذه.
وفي الوقت الذي كنا نتابع ما يجري من حراك ثقافي هنا وهناك، كان كافكا محارَباً على أكثر من صعيد باعتباره صهيوني التوجه بأكثر من معنى، ومن ذوي التوجهات العقائدية المتصلبة: الشيوعية خصوصاً وقد تلاقت نوازعهم- ويا للمفارقة- مع نوازع ذوي التعبويين دينياً وقومياً، الأمر الذي استعجل ظهور كافكا" 1883-1924 "وهو التشيكي- الألماني واليهودي ديناً، بما هو متردد عنه باعتباره عراب الكابوسية في الكتابة: ليست الأدبية: الروائية فالقصصية تحديداً، إنما رسائله وغيرها، بأسلوبها القاسي واللاذع، إنما في الاتجاه المعاكس للمعنى المباشر، وهو أنه ممثّل الكابوس الذي يتهدد اليقظين من ذوي الشأن بداية، أكثر من النوَّم، وما يترتب على ذلك من تسخين ما في الأعماق والدفع بها إلى الانفجار جرّاء ضغط المعيش اليومي المقيت.
أعتقد، بالطريقة هذه كان اللقاء غير المنتظر " والكتابة الفعلية، بكل أجناسها تحمل بصمة إبداعية، والإبداع لا صلة له بعيادة توليد أو قابلة قانونية أو طبيب عائلي ..." إنما بالكاتب وتجلّيه كثرة في الوحدة عبر أهليته للتفاعل مع المؤثرات، فيبحث كلٌّ عن الآخر: كافكا بلسانه الغرائبي الغريب الصادم والمنبّه، وهو في قبره، إنما في حياته المتعدية لحدودها المحلية، والذين كانوا يترقبون من يحيل قواهم النفسية المضغوطة- المكبوتة المهانة إلى مواقف، أو كلمات ذات نسب كابوسي هي الأخرى، دون أن يعني ذلك أن كل كتابة كابوسية تكون من حيث البنية ذات نسب وحسب كافكاويين، لأن هناك من لم يطّلع على كافكا ليحشَر في خانته . يعني ذلك إمكان الحديث عن الكابوسية كجنس، وكل من يكتب في هذا المنحى يؤسس لنوع كابوسي له إلا إذا كان هناك ما يفضح عملية التأسيس جهة التسمية أو الاعتراف، ويقزّم المفهوم ، عندما نعلم أن لكل بيئة كوابيسها، أو كابوسيتها الخاصة تتشكل في إطارها التاريخي، الاجتماعي، السياسي، الثقافي والنفسي- التربوي...الخ .
سوى أن عملية الحظر المؤدلجة عربياً عليه استعجلت ظهوره والبحث في أمره، وعلى وقع الاهتمام بما هو جديد، فإذا كانت بداية ثمانينيات القرن العشرين بمثابة إعلان الهزيمة الساحقة لمجمل الإيديولوجيا العربية وتنامي سيطرة الشبح التديني الموجه على المنطقة، والدخول في مناخ خماسيني ومثير للسخط، فهي بالمقابل بداية تشكّل " وعيات " توثبية ولو بشكل متقطع، من قبل كتاب وباحثين، وفي الواجهة من وجدوا ضالتهم أكثر في مؤثرات الحداثة الغربية، وليكون هناك تغزل صامت بين رغبتين: رغبة صامت وفاعل، ورغب قائم ومنفعل كثيراً .
باختصار شديد، ما كان متداولاً عن كافكا " العربي " محدوداً إن من جهة أعماله وإن من جهة الذين انشغلوا باسمه ككاتب استثنائي، حتى على مستوى الترجمة الخجولة لبعض منها، وتأتي رواية " المسخ " في تداولها العربي نموذجاً " يكفي، مثلاً، أن يرجع القارىء إلى المجلد الأول من الآثار الكاملة لفرانز كافكا والمترجم من قبل ابراهيم وطفي،دمشق، ط2، 2003 " إلى جانب نماذج كتابية عن كافكا وعمله هذا، وصحبة ترجمته للرواية بالذات، وكيفية التعامل مع كافكا عربياً...الخ "، لتمثيل هذا البؤس والمبتغى بالمقابل جرّاء ندرة الموجود.
في هذا الوضع، كنت كغيري من المهتمين بهذا التصور المغاير، أعيش كابوسية الواقع وأستلهم منها ما يسهم في إزاحتها أو التخفيف منها أو تفهمها، رغم قلة المراجع، وجاءت كتابتي حول هذه النقطة " الاغتراب الكافكاوي " ومن خلال " المسخ " مجالاً للتعبير عن بعض كوامني.
بحثي/ كتابي هذا بقي لسنوات دون أن يشار إليه من أي جهة، سوى أن العقود الأخيرة أظهرت مدى الاهتمام بهذا الموضوع، وليشكل ما كتبته وهو بتواضعه مرجعاً، وهو ما يمكن تلمسه من خلال كم وافر من المقالات والكتابات المنشورة انترنتياً وبيسر.
ولا أعتبر نفسي من بين الأوائل ممن خالفوا " العرف " السائد، سوى أنني أستطيع القول أن كثيرين ممن كانوا يعرفونني استهجنوا كتابتي هذه، وكيف أظهرت البعد الإنساني لكافكا وهو ليس كذلك، وكان هناك أصدقاء عراقيون ممن لجأوا إلى سوريا وقتذاك، وهم أكثر من أفصحوا عن تحفظهم هذا باعتبارهم عقائديين يساريين قبل كل شيء.
ليتبين لنسبة لافتة منهم وهم ما آمنوا بهم، كما صرّحوا لي في أكثر من مكان.
ومن باب التذكير أيضاً، فقد كتبت البحث سنة 1983، وأرسلته إلى المجلة الكويتية المذكورة " وهي فصلية " وذات المكانة، ونسيته، فقد مرّت شهور طويلة بالمقياس النفسي، لأُعلَم وأنا كنت حينها أؤدي الخدمة الإلزامية" العسكرية " في دمشق بالموافقة على نشر بحثي/ كتابي، وبعد سنة، ففوجئت بمقدار ما سررت، وأنا أحاول البحث عن كيفية الموافقة على موضوع كتبته في وضعية نفسية معينة وتصور ثقافي معين، وفي مناخ كان يناوىء كافكا بأكثر من معنى عربياً.
في نهاية تسعينيات القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة يمكن القول أن هناك نوعاً من الاسهال الكتابي ولا أقول" البحثي " في موضوعات كهذه، وفيما يشبه العدوى، كما لو أن كلاً منهم غالباً كان يريد تبرئة نفسه من المرحلة السابقة، وأنه كافكاوي أصولاً، فيبحث في هذه النقطة الكتابية: الأدبية أو الفكرية أو تلك، ويقدّم بحثاً، أو يؤلف كتاباً، أو يعد أطروحة جامعية، وكله اعتقاد أنه أصبح " تقدمياً " أو " مدنياً " أو ربما ما بعد حداثياً.
مع بعض التحفظ، هو هوىً آخر في الكتابة، وانخراط في المجرى العميق والصاخب، هوى لا يملك بطاقة فك ارتباط بالمناخ السياسي والتعبوي الذي أشير إليه.
ما أراه مناسباً للنظر فيه، هو التحرر من عقدة التطابقية بين كاتب كان، ومن يكون من بعده أو الآن، وأسمّيها عقدة، ودون تعميم طبعاً، لحظة " اكتشاف " أوجه تشابه، وما في ذلك من تعسف في التقابل، ما في ذلك من تضحية بالتاريخ الأدبي نفسه، وبالذات الكاتبة وبعملية النقد .
إذ إننا في الحالة هذه نسيء إلى الطرفين: المقلَّد والمقلّد في نطاق " التطور اللامتكافىء " في البعد الاجتماعي والنفسي والثقافي...الخ، إذ إنني عندما أردد مثلاً، كما هو متداول هنا وهناك، عن أن نجيب محفوظ بلزاك الرواية العربية، أن جبرا ابراهيم جبرا فولكنر الرواية العربية، أن مصطفى صفوان جاك لاكان التحليل النفسي العربي" رغم أنه عرِف حديثاً لأنه يكتب بالفرنسية إجمالاً " وأن أدونيس سان جون برس الشعرالعربي، فهذا يبقي كل من ذكرت وخلافهم في مرتبة الأبناء، ولكنهم أبناء بالتبني، وهذا يثير إشكالات مريعة جهة حقوق الملكية، وهذا ما نتلمسه فيما بات يعرَف بالسرد العربي ومدى تأثره في كتاباته ذات الطابع التنظيري " عبدالله ابراهيم، سعيد يقطين، سعيد بنكَراد...الخ " راهناً، وأن قراءة " قاموس السرديات " لجيرالدبرنس، يفصح عما لا يُسِر من يعملون في هذا الحقل من موقع البنوة، فالابن هنا لا يصبح أباً طالما أنه يبحث عمن يتبناه مسقِطاً هوية الأبوة الطبيعية، ليتدخل مفهوم مزر هو " اللقيط Le batârd " بكل حمولته الإيلامية، رغم وجود من يكيل له المديح عربياً " ربما سأتعرض إلى هذه النقطة لاحقاً "، وما يترتب على مثل هذا الاقتداء بالآخر، وما في ذلك من " قِوادة " على مستوى الربط بين ثقافتين، لكل منهما بيئتها وملابساتها، وطقوسها ينبغي هضمها جيداً حتى لا يحصل عسر الهضم أو ربما التسمم، جرّاء الاستهانة بكل منهما، ويكون التهجين نعياً ذاتياً بصورة غيرمباشرة .
ذلك ما يُتلمس في كتابات الإيروتيكا العربية: كتابة بحثية وأدبية، على جري القائم في الغرب " قارنوا بين كتابات باتاي مثلاً، وروايته " العين " وما هو مفصَح عنه في نصوص أدبية روائية وكتابات تزعم أنها " مؤيرسة : من الإيروس ": الإيروتيكا تتحدث بالصياغة المتداولة لغتها الأجنبية، وعربياً تتماهى معها، كما لو أنها تمارس استمناء اليد في حرمانها العضوي !
وأرى أن البحث في كافكا لا ينبغي أن يوحّد الحدود، حتى لا تختلط الأمور، ليظهر ما بات يسمّى بالأصل جرّاء الافتتان بالآخر وانفعالية العلاقة، والنسخ السلبي: السيمولاكر .
ما تعرضت له كان يندرج عن مفهوم " كافكاي أنا " بصورة ما وليس من باب الرد على أي كان قطعياً، وقد تكون المسافة القائمة عميقة أو قريبة، ولكن الشخصية المفهومية لكافكا كما هو شأن كل شخصية " مقدامة " هي ما لا نهاية لها من الشخصيات بأطيافها، ولكل متعامل نصيب، فيكون دونها أو معها، أو متعدياً لها أو معيداً تركيبها بمقاييس تتناسب وذائقته الفنية ووعيه للعالم من حوله، وتبعاً لهذا التصور يمكن أن تتحقق عالمية الكتابة : الأدبية وسواها.
هل لي أن أختم مقالي هذا بكلمة وهي أنني ربما كان عدم حماسي لنشر: بحثي/ كتابي ذاك، ضمن كتاب مطبوع، مرتبطاً بمثل هذه العدوى الجامحة السافحة، وتركه للتاريخ فقط ؟


إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى