حسن أبوبكر المغربي - المذيعة الفاتنة

كل يوم تقريبا (باستثناء أيام العطل الرسمية) أستمع لصوتها الحميم على راديو السيارة، وهي تقدم برامج الصباح، لدرجة أن حضورها ارتبط في ذهني بأيام العمل وأجواء الصبح الدافئة، رَسَمت لها مخيلتي صورة قريبة جدا من كرة (توم هانكس) في فيلم (كاست أوي)، وبتعبير آخر، أضحت بيني وبينها ألفة في وقت الذي انقطعت فيه أسباب المودة بين الناس، أشعر أني أعرفها جدا، أتمثلها، أحاول تخيل تفاصيلها رغم أنها بدت غير قابلة للوصف، إنها حقا ملهمة! ولا أنكر، فطالما استمتعتُ بحديثها مثلما يستمتع رعاة البقر بأغاني (دوللي بارتون) الريفية، وكنتُ أُردد بعفوية ساحرة كلمات شاعر الحب والجمال محمد المهدي:
حرّكتَ مشاعِرَ في نفسي
وتركتَ الشوقَ بها يعِصفُ
كُن شهماً يوماً واذكُرني
فالعودُ يَحِنُّ لمن يعزِف
لكن في أحد الأيام، ضاق منها خاطري، حينما سمعتُها على الأثير تعلن بلهجة حازمة عدم إمكانية قبول الباحثين عن العمل بوزارة الإعلام نظرا للظروف الراهنة التي تمر بها البلاد.. كانت تكررها على طريقة مزاد الخردة والمواد التالفة، استغربت حينها وقلت لنفسي وما شأن الحرب ونقص السيولة بتوظيف الصحافيين والمذيعين بالإذاعات المحلية؟ وحتى لو كان الأمر كذلك، لماذا مذيعتنا الفاتنة ورطت نفسها بإذاعة خبر كهذا؟ يبدو أنها تخشى المنافسة، فرغم جمالها وأناقتها وصوتها الساحر، فأنها تفتقر لمقومات المذيعة الناجحة التي تمتاز بعقل مشرق ورؤى مستنيرة، إن أكثر ما يفسد نجوم الإعلام الثقة المفرطة في النفس وسوء الاختيار، وهذا الشيء يشمل نجوم الفن والكتابة الأدبية أيضا، فكم من موهبة احترقت، وكم من فنان حَكَم على نفسه بالفشل، لا لشيء سوى أنهم عجزوا في التقاط الجمال أو في انتقاء الموضوعات التي يكتبون عنها. ولدي أمثلة كثيرة، ففي بلادنا لدينا أصوات غنائية واعدة لكنها لا تجيد الغناء، وكذلك الأدب، لدينا شعراء وكتاب يملكون الموهبة الأكيدة، لكنهم يجهلون ماهية الأدب.
ولعدة دقائق، شغلتني هموم الإعلام والأدب والفن أيضا، ودونما أدري انجرفت أفكاري في الشأن العام وما اتصل به من احباطات متلاحقة على جميع الصعد، مع أنني بالعادة قليل الاهتمام بهذه الشؤون، خاصة وأنه ليس لي دراية بالسياسة وتعرجاتها المضطربة، ثم تذكرتُ بعد أن أخذتُ جرعةً من الهواء البارد قول شاعر الوطن الكبير أحمد رفيق المهدوي:
من ظن أن على الوظيفة رزقه عبد العبيد وناصر الظلاما
سلا خاطري هذا البيت، وأزاح من أمامي فكرة الفشل، رغم قناعتي الأكيدة، بأن صاحبه ختم حياته وهو على وظيفة جد مرموقة، وظيفة نائب بمجلس النواب، تركتُ الأمر للمجهول أو قل ذلك الشيء الذي يأتي على صور متعددة، حظ، وساطة، رشوة، وفي لحظة ما، لمعت بعقلي فكرة خبيثة، فأنا أعمل (حاليا) بمستودع غاز عند أحد التجار، سأنتظر افتعال الأزمة مرة ثانية، ومن ثم سأختار من بين العروض التي ستقدم بطريقة أو بأخرى مَن ينهض بمَهمة المساعدة في الصعود نحو الدور المخصص للإذاعة، وحينئذ ستكون لي فرصة أكبر في التعرف على كبار الشخصيات بالمجتمع، الشخصيات النبيلة والتافهة معا، سأكون حتما رجلا ذا مكانة راقية، سأكون ربما من النجوم، وعندما يتحقق الأمل، وهذا ما أتمناه، سأسعى جاهدا بالكشف عن جميع الخفايا التي تعوق سبل النهوض والتنمية، وسأعمل على إصلاح المؤسسات الإعلامية وأشجع الإبداع، وفي حال فشل كل المساعي والخطط المقترحة، وهذا شيء لا استبعده، سأعلن دون تردد بالإذاعة نفسه بأنني فشلت في كل المشاريع المشرقة: مشاكل البطالة، رعاية الإبداع، وأخيرا مشاكل الإعلام، وبالأخص مشكلة مذيعتنا الفاتنة ذات اللهجة الحازمة صاحبة مزاد الخردة والمواد التالفة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى