يعقوب أفرام منصور - عازفة الأرغن.. قصة قصيرة

كان الصبي الملاّح ينساب بزورقه الجميل على مياه البحيرة السويسرية الهادئة ، قاصداً كوخه عند الساحل ، ونغمات الأرغن المحمّلة بأعمق المشاعر وأرق الأحاسيس ، تنطلق من النافذة ، وتغمر الفضاء المحيط بالبحيرة ، جعلت الصبي يُبطئ في انطلاقه ، ثم يعود ليلقي مرساته ، ويتوقف بجانب القصر الأنيق العتيق المطل بسوره السميك على ساحل البحيرة الحالمة .

إجتذبته هذهِ الأنغام بسحرها وحنانها ، وهيمنت على حواسه ، فبدا كالشارد ، إذ كان أول عهده بسماع الأرغن .

كانت تلك الساعة في ليلة من ليالي الربيع ، ونور البدر قد طلى البحيرة بصبغة رقيقة تبعث في النفوس الشاعرة : الخيال والبهجة والأطمئنان .

كانت في غرفة من غرف ذلك القصر القديم ، فتاة ايطالية جميلة في ربيعها السابع عشر ، حلت مع أمها في ذلك القصر لتقضيا فيه فصل الربيع وبرهة من الصيف .

كانت الفتاة ــ وهي تعزف على الأرغن ، والشموع الأربع الكبيرة قد كست الغرفة بصبغتها الشاحبة ــ تذيب وجدانها مع الألحان ، ثَمِلة بالنشوة الروحية ، والأم تقشعر كلما لامست الأغنام وتراً من فؤادها ، وهزت عصباً من شعورها ، فتارة تتطلع إلى محيا أبنتها المنار بالشمعة الصغيرة في الشمعدان على الأرغن ، وتارة إلى أصابعها المتحركة برشاقة ولطف ، والصبي مأخوذ ، ينصت ويطرب .

وبعد ساعة إنقطع اللحن ، وساد الهدوء ، وعمّ السكون ، والفتى ما زال جامداً في موضعه ، يتوقع تتابع الألحان ، لكن الظلام ازداد ادلهماماً بعد أن توارى البدر وراء الجبال المكللة جباهها بالثلوج ، وظل السكون شاملاً المكان ، فانتبه من وجومه ، وانطلق بمجدافيه نحو الساحل مسرعاً ، لأن والديه بانتظار أوبته ليشاركهما العشاء والسمر ، ثم النوم الهاديء .

لما عاد الملاّح الصغير في الليلة التالية من نفس المسار الذي سلك بالأمس ، سمع ذات العزف السحري ، فتوقف يصغي ، لم يألف هذا الصبي السويسري سوى أغاني الملاحين ، وعزفهم على القياثير الصغيرة والنايات ، لكنه حين أرهف السمع للأرغن ، جُنَّ بحبه وشغف بألحانه الشجية ، فكانت تلك حالة معظم ليالي ذلك الربيع البهيج ، حتى انطبعت تلك الألحان في خاطره ، وأصبحت جزءاً منه ، يرددها وهو يجذف ، قاطعاً تلك البحيرة من أقصاها إلى أقصاها ، من مطلع الفجر ، حتى حلول الظلام .

كانت حنجرته ذات صوت عذب رخيم ، ففي فجر يوم من أيار ، والفتاة تتلو صلاتها الصباحية ، تهافت على سمعها صوت خافت ، تردده البحيرة ، لكنه كان لحنها المحبوب " صلاة الأمل " ، فاستغربت الأمر ، وخفق قلبها خفقاناً شديداً ، وارتجف في صدرها ، فنهضت واقفة والنغم مسترسل ، وهرعت إلى الشرفة المطلة على البحيرة ، تتطلع بلهفة ، فلمحت الصبي الذي لم تقع عليه عيناها قبل تلك اللحظة ، كان يقطع البحيرة بزورقه الجميل ، وقد وضع قبعة صغيرة على رأسه ، تاركاً ظهره للقصر ، ووجهه للبحيرة ، حتى تضاءل صوته وتلاشى منظره ، فعادت إلى غرفتها مطرقة متثاقلة ، وارتدت ملابس الصباح ، لكنها ركنت إلى الجلوس ، غارقة في تفكيرها وأحلامها ، وكان فؤادها يتكلم بصمت : تُرى من يكون ؟! كيف يعرف اللحن ؟! يبدو أنه ملاح صغير ... لابد لي من الوقوف على جوهر الحقيقة .....

وحين جلست الفتاة وأمها لتناول الفطور ، ألفت الأم وحيدتها غافلة ، في مهمه التفكير ، وعلى غير عادتها من الكلام والمرح ، فسألتها :

ــ ما بكِ يا ابنتي ؟

ــ لا شيء يا أماه ، ألم تسمعي ؟

ــ ما هو ؟ ماذا سمعتِ ؟

ــ " صلاة الأمل " ! كان يرددها هذا الفجر نوتي عابر !

ــ ماذا تقولين يا عزيزتي ؟!

ــ الصدق ما أقول ، فهذا ما سمعت وشاهدت يا أمي .

فنظرت إليها الأم نظرة خاطفة ، وواصلت تناول الفطور صامتة .

ظل إنشاد الفتى سحابة ذلك النهار مهيمناً على حواسها ، حتى خيّم الغروب الذي شمل تلك البحيرة بجلاله وجماله ، فتناولت كتاب ( النبي ) لجبران خليل جبران بالأيطالية ، وجلست في غرفتها قريباً من الشرفة تقرأ ، ولما بلغت هذهِ العبارة : " إذا أشارت المحبة إليكم فاتبعوها .... المحبة تضمكم إلى قلبها كأغمار حنطة ، وتدرسكم على بيادرها كي تُظهر عُريكم ، وتغربلكم كي تحرركم من قشوركم ، وتطحنكم كي تجعلكم أنقياء كالثلج ، ثم تُعدّكم لنارها المقدسة كي تصيروا خبزاً مقدساً يُقرّب على مائدة الرب المقدسة " ، أطالت التأمل فيها ، وقرأتها مراراً ، وغابت عن وعيها تحلم ، حتى أفاقت على صفير الغلام الملاّح ، منسرباً بزورقه الجميل بمحاذاة القصر ، أطلّت من وراء زجاج النافذة ن وارتعش كيانها حين لمحت جماله الساذج ، وقسماته التي تنمّ على الوداعة والطهر وصفاء القلب .

ولما بلغ النافذة التي اعتاد الوقوف تحتها ، هدأ وشرع يرتل أنغاماً خافتة ، رافعاً رأسه بين الحين والآخر نحو النافذة ، كأنه يستحث أهل الدار على إسماعه الموسيقى ، كما أعتاد منهم كل مساء ، وكانت هي تبصره من حيث لا يراها ، واقفة إزاء الستائر الرقيقة الزرقاء ، لكنها أحسّت بأنها تندفع نحو الشرفة ، وتطل عليه منحنية إنحناءة بسيطة ، ثم تحييه :

ــ أسعد الله مساءك أيها الملاّح الصغير .

ــ مساء الخير ، آنستي ، هل أنتِ التي تعزفين الموسيقى في هذا القصر ؟

ــ نعم أنا ، وهل أنتَ الذي تردد هذا اللحن منذ لحظة .... وعند الفجر ؟

ــ نعم ، يا آنسة ، فقد حفظته في قلبي لأني أحببته كثيراً ، أني أردده دائماً ، إلا أنني لا أعرف الآلة التي تُطلقه ، أتصورها آلة كبيرة !

ــ أجل ، وكيف استطعت حفظ اللحن ؟

ــ أقصد هذا الموضع كل يوم مثل هذهِ الساعة ، وأُرهف سمعي ، بتّ وأنا على هذا الحال ما يقرب من شهر ، فتغلغلت الألحان إلى أعماق نفسي ، وأضحت سروري وابتهاجي في وحدتي وساعات عملي .

ــ هل أنت وحيد في هذا العالم ؟

ــ أنا وحيد والديَّ .

كان الغلام ، وهو في ربيعه الخامس عشر ، يتكلم بلهجة لطيفة ساذجة ، تُحبب إليه القلوب ، وتفتح نوافذها وأكمامها ، لكن الظلام قد زحف بعصائبه ، وتعسَّر على كل منهما مشاهدة الثاني ، وعندما بلغ أذن الأم صوت الحديث المتبادل ، جاءت وأصغت ، فأمسى الملاّح خجلاً ، وقال : " هل لكِ يا آنستي أن تُسمعيني هذا اللحن ، قبل أن أودّع هذا المكان ؟ " ، وتناول القيثارة الصغيرة ، وداعب أوتارها ، مرسلاً مقدمة اللحن الحبيب ، فاقشعرّ جسم الفتاة النحيف ، لأنه إنما غمز أوتار قلبها الحساسة ، فانتفضت من روعة التأثير العميق ، ثم قال : " ما اسم هذا اللحن البديع ؟ " ، أجابت بعد برهة صمت : إسمه ... " صلاة الأمل " ، ودلفت إلى الغرفة ، فجلست إلى الأرغن ، وشرعت تعزف تلك القطعة وأخرى للموسيقار هنري برسيل عنوانها ( أنظر والآن اعبد الرب ) ، وعندما فرغت من العزف ، كان الغلام قد أوشك أن يصل الكوخ ، وهو مفعم بالحبور والنشوة .

ولما أصبح اليوم التالي ، ألقى كل منهما نفسه بين ذراعي أمه ، وطفقا يبكيان كالأطفال من جذوة المحبة وتباريحها الأولى ، فقالت أم الفتاة العذراء لابنتها : " هيا إبنتي .... هَيِئي نفسك وامتعتك للسفر ، علينا أن نغادر هذا المكان " .

عام 1982

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى