فاروق أوهان - صدره الصغير

في ظلمة البئر
يتصرّف المغدور كالأعمى

– ما الذي في نهاية هذه الظلمة؟
– إنه ماء يترجرج في أسفل هذا البئر .
حدثها بأنه قد رأى مثل هذا البـئر مـن قبـل ، إنـه يذكّـره بأشـياء قديمة ، أشياء لها أثرها في حياته .
– إنها البئر نفسها التي أخرجتني منها حين حاولت الانتحار .
سألها عن شعورها عندما كانت في القعر ، حيث الظلام المطبق ، والعمق الخانق ، حين انهارت الأرض التي تحتها ، كانت البئر وقتها قد غطيت لكـي تستعمل بالوعة أمام صنبور المياه .
– في تلك اللحظات ، بيـن السـقوط والإنقـاذ ، اسـتعرضت شـريط حيـاتي العابرة ، وما هو تبقى لي منها ، وأحسست أنني في كابوس قاس ٍ ، لن أخـرج منه إلا إلى القبر ، وهبت علي نسمة عذبة انعشتني ، وأحـيت فـيّ الأمـل، نسمة أعادت الروح لجسد فاقد الإحساس ، تصورت في تلك الظلمة أن كل وحوش العالم قد تجمعت حولي لالتهامي ، ، غالبتهـا الرجفـة والرعـدة ، وأجهشـت بالبكاء .
ففغر فاه ، وارتجفت يده وهو يضغط على يد تلـك المخلوقـة الصغـيرة ، وهي تروي له مشاعرها ، إنه يحبها ، لكنه لا يعلم من هي ، إنها فلانتـه وحسب ، ولا يعلم عنها سوى أنها امرأة ، وانتابه شعور ، وهو يسـير معهـا ، بأنه رجل قوي ، وبطـل شـهم يسـتطيع أن يحـمي هـذه الإنسـانة الضعيفـة ، وينقذها .
وجمد تفكيره للحظة ، عندما رأت عينيه فلانة أخرى ، فحدّث نفسه :
– سألتفت نحوها ..!!!
ومع التفاتته ، جاءه صوت من الداخل ، ينهاه عـن النظـر ، أو الوقـوف ، وحينها بدأت الموجودات تتضح أمامه ، عندها نظر بصـورة جديـة ، وبتركـيز متمعن ، إن هذه الفلانة الثانية داخل المتجـر ، فهـي البائعـة إذن ، ولكن من يكون صاحب الصوت الناهي المحذّر؟ ونظر من جديد بإمعان أكثر ، وكأنه يحاول إزاحة الظلام المنبعث من الداخل فضيّق حدقتا عينيه بقوة ، وعجب إذ رأى صاحب ذلك الصوت الرجولي الأجش ، صبيا صغيرا ، له شاربا رجل يعرفه ، يقف وراء منضدة البيع ، وأوزان البضائع فـدهش ، وارتسـمت علامـة استفهام غامضة على وجهه ، فقد أراد الاستيضاح ، لكـن كـل شـيء كـان قـد اختفى فجأة ، واختلطت أمامه المكونات بمكنوناتها ، وكأنه يدخـل دوامـة ، فتجره بعيدا عن الواقع ، رغم تشبثه ، واستنجاده بأوصال الحقيقة، فها هو في عرس، وأصوات ضجيج تصم الآذان ، ، ، وتساءل …
– أين فلانتي ?
وتلفّت حوله ، فجاءه صوت ذي أصداء عميقة مفزعة .
– إنها ليست لك …
اختلط هذا الصوت، بضجيج أبـواق السـيارات فـي مـوكب العـرس المـار أمامه ، وفكّر إنه غير مدعو ، ، فسأل ..
– لمن هذا الزفاف؟
فجاء الجواب من الفلانة الثانية ، صاحبة المتجر التـي بـرزت فجـأة إلى جانبه ..
– إنه عرس فلانتك .
وعجب من أمره ، وملكته الحيرة ، ، ، فتساءل ..
– ولكن كيف حدث ذلك ?
وفكّر ، ، لا يعلم بذلك إلا الرب؛؛ وفجأة خيّل إليه أنه يحضر حـفل عقد القران ، فيشاهد فلانته من بعيد ، واقفة بخشوع أمام مـذبح الصـلاة ، استعدادا للرباط النهائي المقدس ، الربـاط الكـاثوليكي الأبـدي ، فإمـا الحياة مع زوجها على كل ضيم ، أو الموت ، هما طريقـان أسـوأهما المـوت، وستكون محظوظة، إذا كان زواجها سعيدا ، لذلك لم تجعل نفسها ترى وتراقب فلانها، لئلا تعطيه أملا ، بينما هي مقبلة على حياة جديدة ، أمـا هـو فقد نظر من جانبه بإمعان وتبصر شديدين ، لعلـه يجـد قرينهـا المزعـوم ، ولكن أحدا لم يكن يقف إلى جانبها ، فهمس بحيرة …
– أين الرجل الذي ستتزوجه ? إنها وحدها !!!
وشعر بدوامة لفته ، ولفت معه سؤاله ، فطار وقت تنفيـذ عقـد القـران ، وانتهى كل شيء، لقد رآها تسير أمام المدعـوين ، وكـان يعتقـد أن يدهـا ستمتد إليه ، ليكون هو نفسه القرين المنشود ، لكنها أولته ظهرها ، وبصمت التهمت الطريق فتبخر كل أثر للطقس والمكان ، وتركت له هواجس كالعواصف ، تزمجر بداخله من شدة الحقد القاتل .
وعاد ليرى نفسه إلى جانب صاحبة المتجر ، بعـد أن شـعر بحَـرّ شـديد قاتل ، نتيجة الحقد الذي أفرز عرقه الغزير ، فأصبح كجبلة من عجـين مضـى على اختمارها ساعات ، لكن الهواء ما لبث أن رطّب جسده ، وبلعومـه الـذي جف من هول المفاجئة .
– ،لكن ما الوقت الآن؟
تساءلت صاحبة المتجر ، تلك الفلانة الثانية ، سبب المتاعب ..
– الخامسة والنصف ؟
انتفض من سريره كأن جرسا منبها أيقظته ، وفتح عينيه ، فتبخر كل مـا جعله يعرق ، واختفت الفلانة المجهولة ، كلا ، كلا ، إنها تشبه ســيلفي ، أو فيوليت ، أو آنّا ، لا ، لا ، إنها ثلاثتهن معا ، بـل إنهـا وداد ، ، وقام ليغتسل ، ويغيّر ملابسه المبللة بالعرق ، لكن فكره مع هـذا انشـغل بصاحبة المتجر ، وجه النحس ، فحاول أن يجد لها وجها مناسبا يتلاءَم مـع قسماتها ، وروحها ، فعجز .
وتسربت إلى أنفه رائحة الشاي الذي أعدته زوجته مثل كل عصر تموري ، كأنها تذكّره بالواقع ، وتعاتبه على ذلك الصمت الذي لفّـه ، منـذ قـررا الانفصال ، وفكّر ، إنني في كامل وعيي الآن ، وها أنا أعـود إلـى هـذا الواقع التعيس ثانية و ثار بصمت ، تبا لي ولأحلامي وشـعر بكآبـة جعلته يدمع من الداخل بأسى ، ويندم ، ويندم من جديد على مواصلته الحـلم والتمادي فيه ، لكنه ود لو يعود ليكمل تفاصيله من جديد ليعـرف السّـر ، وتساءل ، ،
– هل يفسر الحلم شيئا من الحقيقة ؟
خرج صوته جهوريا هذه المرة ، وحمد ربه على أنه قد ظل لوحده بعد أن ذهبت زوجته إلى المطبخ ، ودخل هو إلى الحمام ، يحدث نفسه أمام المـرآة ، ولولا ذلك لكان هو وزوجته في أشد حالات الصراخ ، والهياج ، وربما تكـون النهاية خروجه ، أو خروجها من الدار ، ، ، وها هـو مشـمئز مـن صورتـه فـي المرآة ، ويرى وجها ضعيفا عجوزا ، عملت السنين فيه عملها ، خـمس وخمسـون سنة ، لا يريد أن يتذكرها ، ولا يعترف بثقلها على كاهله ، فما زال شـابا قويا منتصب القامة ، مالكا لقواه ، كما في الحلم ، لكن عينيه الغـائرتين تحت جفنين متورمين ، نصف المغلقين ، جعلتاه يسأل نفسه :
– وماذا بعد؟؟ ماذا وراء كل هذا العناء.؟ قال ذلك من خـلال دخـان السيجارة التي لا تفارق فمه ، حتى وهو يحلق ذقنه ، وكم لاقى مـن مشـاكل مع زوجته بسب تدخينه في فراش النـوم ، كمشـاكل الرائحـة ، والنفايـات ، والخوف من حريق متوقع ، ، ،
وفي المقهى ضجر كالمعتاد من محدثه ، وود لو ثرثر هو وفضفـض ، وبـاح ، وعربد ، وخلط كل العبارات ، تمامـا كضوضـاء النـاس المتناقضـة فـي ردود الأفعال ، لكنه ضجر حتى من الكلام نفسه ، وصار يكره ، أو يخـاف أن ينطـق خشية أن تسقط من فمه الكلمات ، وتتبعثر ، وظّن بأنه ربما نسي النطق ، أو فن الحديث ، وظل صامتا فترة طويلة ، متمسكا بموقفه ، مفضلا أن تحتشد كـل الأفكار ، وتدور في رأسه كدوّامة صاخبة ، وإلا فما نفع الرأس بدونهـا؟
وماذا لو أطلقها إلى غيره ، ، ، كلا ، ، كلا ، ، إنها سـتصبح ملكـا لغـيره ، كلا .. كلا .. لن يبوح بها ، فرغم أنها ليست أسرارا ، إلا أنهـا ملكـه ، وجزء من خصوصيته .
ظل هكذا على جلسته مسمرا عينيه في لا شيء ، وقد اعتاده محدّثه الذي لا ينفك عن الكلام ، والتعليق ، وإطلاق النكات ، والمـزاح ، ولا يهمـه إن نظر إليه أو أجابه أو لم يفعل ، ، ،!!! لأنه لن يجد في فراغه هـذا أحـدا لا يقاطع حديثه إلا صاحبه ..
أما عينا الصاحب فهما لا تريان صور الواقع من حوله ، وإنما تريـان أحلامه من خلال انعكاس الأنوار على وجوه المارة ، لكـن الأنـوار التـي تنعكس مباشرة على وجهـه ، فإنهـا تبـدو خافتـه مـن خـلال عينـي الـزوج الشاحبتين ، وابتدأت الأنوار تمـتزج ، لتشـكل حزمـة متشـابكة الألـوان ، يراها تتراقص عبر دوّامة ظلـت متمـردة ، تغلـف حـدقتي عينيـه لا تريـد الانحسار ، أو الرجوع إلى منبعها ، وفكّر ، ، إنه ضائع ، وفجأة شعر بوخـزة مؤلمة ، كانت ضربة مازحة من صديقه ، عـلى صـدره ، لكنهـا آلمتـه ، وفكّـر بحسرة ، ، ضعيف .
هكذا جاءت هذه الكلمة فجأة ، ضعيف حتى عن احتمال هذه الضربـة التـي آلمت صدره الصغير ، مثل قفص هش ، لا يحتمل حتى دخان سيجارة :
– آه لو أستطيع استبدال صدري بصدر شخص قوي ، حتى بصدر صـاحبي الـذي لا يزال يثرثر ، ويدخن ، ويمازح ، ويضحك ، ويتناطح حتى مع الهواء ، يسـعل ، ويشهق حتى تدمع عيناه ، وكان يضرب على صدره بجمع يده ، ويـدق عليـه لأي سبب كان ، كأنه يقول لمن يتحدث إليه :
– أنا عندك وقت الشدائد ، أو ، اتّكل على أخيك .
فينبعث من الاتجاه الآخر للطاولة صوت مثـل صـوت صريـر بوابـة قصـر عظيمة البنيان ، نفيسة الخشب ، ربما تكون من الزّان التايلاندي ، أو خشب الورد الصيني ال ROSE WOOD .
عزى صاحبنا نفسه بأن له هو الآخر صدرا قويا ، يدخلـه فـي الحـلم ، ويحمي ،به كل من حوله من الضعفاء والمساكين ، وانتقل تفكيره فجأة إلـى البئر ، وإلى حقيقة وصدق ما قالتـه وداد ، آه كـلا ، ، أو إحـدى هـؤلاء الثلاث ، هل حقا يقوى علىأن ينقذ صبيـة سـقطت فـي بـئر عميقـة عتيقـة ، مهترئة الجوانب ، أسفلها بحيرة ظلماء من الحسـرات ، مملـوءة بالعقـارب ، والآفات ، والثعابين الفتاكة أن يقوم هو بإنقاذها مثل القديس جرجيس ، ولكن دون رمح ولا حصان ، لأنها قد استنجدت بـه مـن الغـرق فـي الميـاه الآسنة وليس من تنين سيفترسها.
طال تفكيره بأحلامه ، حتى ضجر محدثه ، وفرغ المقهى مِن كل مَـن كـان فيه ، أما هو فقد فرح وأغتّم في آن واحد ، فهو من جهة سوف يعـود لركـوب، سفينة أحلامه ، ومن جهة ثانية سيعود إلى البيت ليجد زوجته تؤنبـه لأي سبب ، فقرر أنه سيلجأ إلى النوم مباشرة ، ومن ثم إلى أدوار البطولة فـي الحلم ، وبعدها سيعود ليجلس في المقهى ، صامتـا ، سـاخرا مـن مرتاديهـا ، فخورا بأحلامه الجبارة ، فليس هناك من يشبهه في ذلك .لكن الأسى غلّفه فجأة ، فانتفض بجد وتصميم عـلى التغلّـب عـلى هـذا الضعف ، وهذه العزلة المؤلمة القاتلة ، وأراد أن ينطق ، لكنه عجز ، وهـرب عائدا لينام ، ويحلم بالقوة ، ليحمي الفلانة ويحبها.


د. فاروق أوهان


- نشرت في جريدة اللواء العراقية ، الصادرة ببغداد ، يوم الأربعاء المصادف في 12\11\1964
- نشرت ضمن مجموعة قصص بعنوان الحصان والثلج عن دار مكتبة الحياة ببيروت 1997.



* نقلا عن موقع الناقد العراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى