سلام إبراهيم - درويش المحبة*

يبرك خائراً في بركة السرير، ضائعاً في دوامة القصة. يحاول إيجاد ما يفسر وضعه الصعب.. يستميت استماتة غريق في يمٍ. يتشبث مستنجداً من غور الماء، بذراته العصية، شأن جسدها القريب.. المستحيل.
ـ ما الحب.. يا رب المحبة؟!.
ـ أيكون ليس غير وهمٍ.. يصبغه المحب مثل غشاوة على كيان المحبوب؟!. هدفٌ محال؟!.
ـ سراب.. سيظل البشر يلهثون في الجري خلف بريقه المستحيل!.
ـ وحدهم السذج مثلي يعتقدون بتحققه في كيان المحبوب الواقعي!.
ارتسمت أمامه بوضوح؛ لحظة تشبث أصابعها الناحلة بكفه، وهما يخترقان الحدود دافعين الحرس التركي، وسط جموع القرويين الأكراد، عند ظهور أول جندي عراقي من خلف القمة المطلة على المعبر الضيق. لم يفلت يدها طوال المسافة الممتدة إلى خمسة كيلومترات. كان الذعر يرسم الوجوه والأجساد وصراخ النسوة والأطفال الذين ظلوا بانتظار قرار السماح لهم بالدخول ثلاثة أيام بليلها الباردة وجوعها. كان يشعر بالغبطة بعد أن تركتهم مفرزة الرفاق المتجهة نحو المثلث الإيراني ـ العراقي ـ التركي، يحملق في وجهها الشاحب، المطلي بوهج موقد النار الذي أعدوه على عجل، وهي تسأله لاهثة:
ـ ماذا سيصير بنا؟!.
كان لا يدري، بل غير مهتمٍ أصلاً. بالعكس كان سعيداً في أعماقه لخلاصه من ورطة السلاح.. وذلك الإجبار المتكرر على الخروج بمهام قتالية.. مضاف إلى هاجس فقدانها الوشيك. كان رابط الجأش، مقدراً وضعهما وسط هذه الجموع المؤلفة التي لابد أن يُسْمَحْ لها بالدخول ولو في أخر ثانية، وإلا سوف يسحقها الجيش العراقي العائد لتوه من جبهة الحرب مع إيران:
ـ سنعبر الحدود!
ـ وإذا لم يسمحوا الأتراك!
كان منشياً وهي تنتظر كلامه وكأن الأمر بيده:
ـ سنعبر.. سنعبر.. لا تقلقي!.
ماسكة بكفه وكأنها عروة الدنيا وسط موج البشر المفزوع. كان يحدق مطمئناً في وجهها المدهش المرتاع المتألم لصراخ الأطفال والنسوة.. أول مرة يحسها تتمنى الغور في أحشائه.. الولوغ فيه.. حتى شارف الذروة حينما سحبته متوقفة، وأشارت نحو طفلٍ يصرخ متقلباً على المنحدر الصخري جنب الطريق، تبين لاحقا أنه طفل ضائع سقط من ذراع أمه المرعوبة الراكضة. ناضل ضد تيار الحشد المندفع. وصل حافة الطريق. أنحدر نحوه وهي لا تزل تطبق على كفه. ظلت على إطباقها وهي تلف بذراعها الثانية الطفل الباكي!.
ـ أليس الحب تلك اللحظة البارقة؟!.
ـ هل تتذكر مثل هذه اللحظات؟..
ـ هل قدر الحب أن يكون في زمن العواصف.. وفي أتون المخاطر واضطراب الأمكنة المهددة بشبح الموت؟!.. أم انه وهمٌ لم يدركه سوى المتصوفة الذائبين في خيال المحبوب كل الوقت!..
هو الأخر عاش لحظة الخطف البهية، وأصابعها تتشبث بكفه في ضجة الصراخ والعويل، في غرفة الطين وهو يتملى بذهول عريها المسفوح، على سرير حجري مغبر، بعد أن غيبها الثلج والمسافات قرابة نصف عام، يتملى عريها المسفوح على سرير ليلة العرس، غافية، غارقة بالورد والبخور في غرفة الفندق.
هو الأخر كان لا يبغي من السكر والإبحار في المخيلة سوى الإمساك بطعم تلك اللحظات الفريدة، والمكوث فيها.
هو الأخر منبوذاً.. وحيداً على سرير الرمل مثل الحلاج في الزنزانة قبيل الذبح!.
ـ أعذتك بالنار، فأين سكونك؟!. وأظفرتك بالجنة، فأين نعميك؟!..
تراءى له يحوم مترنحاً مثل سكران، في موج النور المتسلل من السماء الباهتة، بثيابه البيضاء ولحيته الشيباء الطويلة الهابطة حتى وسطه، وملامحه الصافية الشاردة، يحوم في فضاء الغرفة ناقلا نظره بين السرير وسماء النافذة المنكفئة، وكأنه يدعوه للغور في الظلام، في سر الخلق المتجسد بمشهد الليل بمصابيحه الأبدية السابحة في محيط العتمة، المحدقة بالفراغ مثله.. مثل كل العشاق المخذولين في الحكايات والأساطير.
ـ الحبُ مطلقٌ عصي.. لا يعرف سوى تحقق خاطف.. ذروة مثل لحظة قضم آدم التفاحة..
الحب.. سر!.
ـ سؤال مدفون في فراش الليل.. في احتدام الذات وهي تبغي التلاشي بالآخر في عراك ليس هنالك ألذ منه!
ـ نشيد راعٍ..
ـ الحب سرير أول النول بعد مشقة الأشواق!
ـ الحب برق نراه ملأ العين يشطر ستار الحلكة..يستحيل لمسه.
لا زال المحب يشكو عدم فهم المحبوب وكأن الالتباس هو الجذر.. الأصل والوفاق هو الفرع المهزوز.. في عناق الجسدين.. في العتمة.. في جيشان المخيلة التي وحدها ترتقي بالمحبوب إلى مصاف التقديس.
هاهو درويش المحبة يظهر له من الظلام.. من دهاليز التذكر.. من تلك المناحي التي أسكنته باكراً مدن التخيل والشرود.. يطفو حول سريره الشائخ مردداً بهمسٍ خافت:
ـ لا أبدو لعين ولا قلب إلا.. أفتيه
.. في ضوئي الساطع.. المخفي..
حي..حي..حي.. مددددد…مددددد ياحبيبي.. مدددد..


_________________________________
* مقطع من مخطوطة رواية -كل شيء ضدي-

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى