إبراهيم محمود - نعم، أنا شاذ !

أعترف لكل من يهمه " أمري " سلوكاً شخصياً وكتابةً، قريبه وبعيده، حاضره وغائبه، أهليّه وغريبه، دينيّه وملحده، أنني امرؤ شاذ. ذلك هو صك اعتراف لمن يثير موضوعاً كهذا حول ما أنا عليه من شذوذ ومحاولة البحث عما يثبت شذوذي. هنا أريحه هو ومن لديه دافع لأن يتنشط في هذا المسار، استجابة لأكثر من دافع نفسي وما شابه . أنا شاذٌّ، فخذوا علماً صحيحاً بذلك!
وليكن في علم من يعلم ويريد أن يعلم ويُعلِم من لم يعلم ليسعد علماً يفيه غبطة بما أُعلِمه أنا وأحرّره هنا هو أنني متعدد الشذوذات، أي لدي أكثر من شذوذ. وهذا هو البيان التفصيلي :
إن جئتم من حيث " الأصل " كما هو شائع، وما أسخفه حين يحدَّد ويقيَّم ويقوَّم سريعاً، فأنا كردي، كما ولدت وكما شهدتُ وكما شاهدت وكما أشهدتُ وهأنذا أشهد بأنني كردي الأبوي، الجدّين، وجدي الجدين، كما أخبرتُ، وهأنذا أخبر من يتسقط خبراً كهذا.
إن جئتم من حيث الأصل الآخر، وهو ما سعيت إليه وأسعى إليه ما حييت دهري، فحسبي أن أردد ما أفصح عنه الجميل ابن عربي قبل ثمانية قرون في " نونيته " عمّن يكون وما يكون في استناده إلى نسب رفيع كاسمه ومسماه " الحب ". يعني ذلك أنني أجدني ضمناً: العربي، الفارسي، التركي، الفرنسي، الانكليزي، الكيني، التايلاندي، الهندي، الاسكيموي، الزرادشتي، اليهودي، المسيحي، الإسلامي، الكونفوشيوسي، البوذي، الوثني، المؤمن الملحد، الموحّد، المشرك،متعدد الآباء والأبناء، لي أكثر من زمرة دم، لي أكثر من وجه، من لسان، من قلب، من حلم، من لغة، من اعتقاد، من جغرافيا، من ثقافة، من هوى، من انفعال، من حياة وموت...الخ.
أقول ذلك، على الأقل بالنسبة إلي، لأبرىء ذمتي " الواسعة " من شقيقتها " الضيقة " وأن اسمي لا يعنيني إلا كإجراء عنواني، وليت صلُح الأمر في التخلي عنه، لأكون الساعي إلى أسماء تتوالد، لأعيش أكثر من كيان، ولا يتقدمني وجهي، إنما ثمة صوت هو شبيه اللوحة المنزوعة الإطار، شبيه الموسيقى المحرَّرة من أدواتها، أي شبيه الروح التي تتمثل في كيان عضوي .
ما وجه/ أوجه/ وجوه شذوذي: هذه الكلمة التي ترعب ذوي الفضائل المتوارثة هنا وهناك ؟
لا بد أن هناك من ينتظر ليزداد علماً، ولو أنه فضول، وما أوخمه إذ يكون تصيُّد وضع!
سأثبت هنا لائحة شذوذاتي، وهي سرديات متسلسلة ومتقطعة لحظة محاولة الربط بينها، إذ لا أراني أكثر من كوني جسداً واحداً موحداً، ولكنه متقطع، مجزأ كما هي حالات، وانشغالاتي.
من شذوذاتي أنني لم أكن، ولا أريد أن أكون " أنني كذا " إلا بالصيغة التي تشدني إلى فكرة وقد صار لها فضاؤها، وقدرتها على التحليق بذات هي جمهرة ذوات لأتنفس كائناتي !
من شذوذاتي أنني لم أكن الولد المطيع في العائلة المطيعة لنسبها العشائري، كنت أكثر من صعلوك، إذ الصعلوك كان له جماعته، وما كان أقل الجماعة التي أتفاعل معها لهذا الغرض حينها، ما كان أقل وجود من يتقبل صفة الصعلوك على أن يكون مملوكاً.
من شذوذاتي أنني لم أعتبر لغتي هي أصل العالم، أن حكايات جدتي هي أصل الحكايات في العالم، أن أبي هو " خير أب "، أن رحم أمي لا نظير له، أن نسبي لا يفضُله نسب، وأنا أرى في من يتكلم لغات أخرى، وهم من نطَف أخرى، ومن أديان أخرى، وقوميات أخرى امتداداً لي، مثلما كنت أجدني مغتنياً لهذا التفاعل، وهو ما فتح علي أعيناً وأطال ألسنة مسننة .
وفي إطار اللغة، فأنا ما كنت أعتبر نفسي يوماً متعالياً على اللغة التي أتكلم أو أكتب بها، فنحن عموماً عائدون إلى اللغة، ومهما أفصحنا عن مدى دقة مقولة " كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة " فإن الرؤية هذه تبقى اكتشافاً لغوياً، وأن الأشياء مهما أعطِيت أسماء، فهي في بنيها تبقى معرَّفة بها، وما لغتنا إلا ما " نحنوها "، وجل ما في الأمر أن أعيش اللغة الأكثر أهلية لما تمضي بأناي الأخرى، فأنا كواقع أهلي، مؤطر، تقليدي، جمعي القيم والتصورات، الموت والحياة كذلك، على خلاف " جم " مع أنا كواقع هو وقائع لامتناهية، وإلا لما كان هذا النوع الغريب والفريد من المحاولات من كل فنان، كاتب، مفكر، وعالم لإماتة النمطي فينا . ربما أكون في الحالة هذه أقرب إلى " قرين " بورخيس، هذا الذي أراد التحرر من اسمه باسمه ، فأكون تبعاً لمأثرة المتقدَّم به: الغريب والمغترَب، والمتغرب وغربة الروح وارتحالاتها الدائمة. فأنا نفسي الأخرى، ونفسي عزيزة علي، وهي غير كل هذه " النفس " المتداولة، ومن يزعم أنه ليس نفسه وما يوسّع فيها يفتقر إلى الحد الأدنى من مصداقية التفوق عليها وبها في آن .
من شذوذاتي أنني لم أكتف بنوعية معينة من الكتب وأنا طالب مدرسة " ولا زلت طالبها إنما مدرسة الحياة الرحبة "، إنما نوَّعت فيها واقتنيت ما استطعت إلى ذلك سبيلاً ليجاور التوحيدي ابن تيمية وهذا ابن عربي وهذا الراوندي وهذا الفردوسي وهذا أحمد خاني، وهذا ناظم حكمت وهذا هتلر وهذا كازانتزاكيس وهذا لوتريامون وهذا انطون سعادة...الخ، فهم أطياف من الروح البشرية من وجهة نظري، دون ادعاء أنني أفلحت في الدفع بهم مجتمعين ليوقعوا على عقد اجتماعي- ثقافي مرتَّب في بنوده من قبلي وبإشراف مني، فالعملية صعبة، والمحاولة قائمة وذلك من شأنه إبقاء نوافذ منزل الروح مفتوحة قدر المستطاع، وهذا من شأنه استثارة حتى العادي واعتبار ما أقوم به أكثر من كونه استفزازاً، وبلبة للوضع، وأن التأديب واجب، ولا بد أن القسط الوافر من العزلة المفروضة هي عقاب مشهود له حتى الآن.
من شذوذاتي أنني لم أصل لأي مذهب، وليس في نيّتي أن أصل إليه، أو أتكيف معه، أنّى وكيفما كان، لأن سمة من البرّية المفتوحة تعنيني، مثلما أنني لم أعتبر التحرك في نطاق مذهب معين جهتي الوحيدة أو المفضَّلة في الحياة،ولم أركع لأي كان من منظور استسلامي، والتبرمج برغبات تعلي سلطته، ولم أنصّب أي اسم أو صورته في بيتي أو على طاولتي الكتابية إيقونة يتيمة في جوهرها، إذ لا أكثر من مذاهبي، ومن أسماء من أعنى بهم في زمن مفتوح علي، الأمر الذي أثار ولا زال يثير زوابع متفاوتة هنا وهناك بوصف ذلك حلاً من كل عُرف .
من شذوذاتي أنني أحاول قدر الإمكان رفض الأبوية والبنوية بالمفهوم التراتبي السلطوي، إذ إن كلاً منا يعيش وضعية الأبوة والبنوة وتنوع السلطات وتعددية الأزمنة والألوان ليحسن عن التعبير عن انتمائه، أعني بذلك عما يؤهله لأن يكون إنساناً أو في طور التحول إلى إنسان، ذلك استفزاز آخر لمن يضعوا لكل شيء أو شخص قالبه وإطاره وخانته وحدوده .
من شذوذاتي كذلك أنني لم أحظ حتى الآن وبعد الآن، كما يبدو، بـ" شرف " الانتماء إلى السجل " النظيف " لعبارة " غير محكوم عليه " على المستوى الاجتماعي بقيمه المتداولة، والاطمئنان إلي من قبل حرّاس القيم السائدة والمسودة، وأن برّيتي عائق كبير وخطير يتهددني ذاتياً من قبل ممثلي الشرفالاجتماعي، السياسي، الثقافي والنفسي، حيث تراكمت " قذاراتي " إلى درجة أن " مطهر" دانتي نفسه لا يمكنه أن يشفع لي، وأن أجرّد نفسي من كل هذه " القيم " الممدوحة .
من شذوذاتي أنني أمنّي نفسي بأن أموت ميتة بوم يحدد مكان إقاماته على الخرائب وهو يرثيها ووحده من يحمل " انسيكلوبيديا خرائب العالم وأبطالها " مرتدياً ثوباً ليلياً، أفضل من أن أكون كلباً مطوقاً بطوق ذهبي، وفي وجار مكيَّف أغلى من بيتي اللابيتي الشديد التواضع الآن، إذ إن البوم عندما يموت تحتضنه الخرائب، وتنقل الرياح ريشه وقد تناثر، ويتذرر هو تالياً منتمياً إلى كل الجهات، بالطريقة التي كتبت بها عنه في كتاب كامل لي، وهو وجه آخر من وجوه العصيان الليلي المهين للنهار ومن يهتدي به، ولكم كنت أتخيلني بوماً يهبُه الليل فضائح نهارات البشر.
تلك هي أهم شذوذاتي ضمن مفردة واحدة هي جنس: الشذوذ. لكم هي جناياتي كبرى !
ليهنأ من يريد الوضوح " الأصلي " بوحدة أصله وفصله، نسبه وحسبه، دينه أو لا دينه، عرقه النقي ، أو جنسه، جغرافية منبته وسلالته، سلامة حافظته ومآثرها التاريخية المقرَّرة ، اسمه ونسبه، شجرة عائلته، لغته التي لا لغة سواها في التعبير عن وحدة الذات، المكانة، الثقافة، الإقامة، السلوك الوظيفي واليومي واستمراريته بصورته المعهودة ! لأهنأ بشذوذي المركَّب!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى