هند المنياوي - ظلام القلوب

نعم إنني فتاة صغيرة أفترش الشارع أبيع مناديلي للمارة ويعطونني ما تجود به أيديهم من مال يساعدني العيش فأنا لا أعرف لي بيتا ولا أبا ولا أما ولا أعرف غير تلك السيدة العجوز التي تجلس بجواري ليلا في الميادين و الشوارع العامة و أنام بجوارها نهارا في تلك المقبرة التي من المفترض أنها لا تأوي إلا الأموات نعم أحيانا أستشعر الخوف من النوم بين الأموات لكن ( ستي العجوز) تلك المرأة الحنون دائما ما تشعر بي وتقول لي في صوت حكيم يا بنيتي ( ما عفريت إلا بني آدم ) ثم تأخذني بين أحضانها و تشعرني بالأمان حتي أنام وأستيقظ في أخر لحظات الغروب في تلك العشة الصغيرة التي قامت بتشييدها و بنائها ولكن قبل أن تصبح في ذلك السن الكبير عندها أقوم وأقضي حاجتي بعيدا بين القبور ثم أعود إليها لأجدها قد انتهت من تحضير الطعام وفي انتظاري لكي نأكل وذات مرة وجهت لها سؤالا كان يدور بذهني منذ زمن عندما أجلس على الطريق أتفرج على أولئك الأطفال الصغار الذين يمسكون بأيد أمهاتهم سألتها دون أي معني بداخلي ولكنه فضول وجب استطلاع ليس أكثر قلت لها من أنا ؟ عندها نظرت إلي وهي تضحك بدهشة وأجابتني أنت ( مهجة ) فضحكت وقلت لها لا أقصد إسمي يا ستي بل أقصد أنا من ؟ من أين أتيت؟ أين أبي ؟ أين أمي ؟ وهل من الطبيعي أن أولد بدون أب أو أم ؟ عندها سكتت السيدة العجوز وكأنها تبحث عن رد مقنع وقالت لي بدون شك أن لك أبا و أما ولكن أين هما ؟ الله وحده هو الذي يعلم وعادت مرة أخرى للصمت ثم أخذت نفسا عميق وقالت اسمعي يا ابنتي أنت الآن أصبح عمرك عشرة أعوام وأعلم ما يدور برأسك منذ زمن بعيد . لكن يجب أن تعلمي شئا مهما منذ أن وجدتك وأنت طفلة صغيرة وقد كان عمرك أسبوع واحد فقط على مدخل تلك المقابر وأنا اعتبرتك طفلتي وكانت سعادتي لا توصف آنذك . لقد أرسلك الله لي كي تؤنسي وحدتي في هذه الحياة بين هؤلاء الأموات الذين أعيش بينهم نعم لقد كان لك أب وأم وأحدهما هو الذي أتى بك إلى هنا بسيارته الفارهه وألقاك ورحل دون أن يرحم صراخك الذي أيقظني من نومي حينها وسرت أركض نحو صوت بكائك إلى أن وصلت لك ، وأحتضنك ولمحت السيارة وهي تبتعد عن المكان لا يهم يا صغيرتي كل ما سبق ولكن لي عندك سؤالا مهم جدا فقلت لها اسألي يا ستي فقالت هل أسأت يوما معاملتك ؟ قلت لا فقالت هل أرغمتك يوما على شىء تفعلينه ؟ قلت لا فقالت الحمد لله يا ابنتي لقد أحسنت تربيتك ولم أدفعك يوما إلى شىء خطأ يغضب الله فأنتِ أتيت لي في وقت كنت أشعر فيه بقرب أجلي وانتهاء عمري في تلك الدنيا من شدة شعوري بالوحدة أتيت لي مثل الضياء الذي يعيد النور إلى فاقدة البصر وأضئت قلبي الذي كان يسكنه الظلام كنت أخرج وأنا أحملك على ذراعي وافترش الطريق دون تسول مني عليك ولا أتجار بك أبيع المناديل للمارة في الطريق حتى أوفر لك قوت يومك ويومي وللأمانة كنت وجه رزق تعلق قلبي بك كثيرا وادخرت مبلغا من المال لكي يساعدك على أن تعيشي في هذه الحياة حياة كريمة بعد رحيلي فكل ما أتمناه منك أن لا تنظري إلى ما فاتك ودائما احمدي الله على ما أنت فيه وأوصيك يا صغيرتي بعد رحيلي أن تخافي الله ولا تقعي في الخطأ مثل معظم الذين يفترشون الطرقات والشوارع وانتهت من حديثها لي . كانت كلماتها بمثابة قطرات المطر التي تسقط على الزهور فتنعش أوراقها بل كانت كالرياح التي تحمل اللقاح من زهرة إلى أخري عندها قمنا إلى عملنا كنت أسير معها و في رأسي أسئلة كثيرة عن ستي العجوز لماذا تخبرني الآن بكل قصتي التي أخفتها عني في السابق وبكامل حقيقتها دون تزيين ولا تزيف ؟ كان في استطاعتها أن تكذب علي وهي تعلم أنني سوف أصدق كل ما تقول هل لأنها تشعر بأنني نضجت أم أنها تشعر باقتراب أجلها مثلما تقول ؟ وما سر المال الذي ادخرته لأجلي وتلك الوصية التي أوصتني إياها ماذا تعني بها ؟ وصلت إلى الميدان الذي أفترشه وجلست بجوارها ووضعت أكياس المناديل أمامها وأخذت عدد من تلك الأكياس وتوجهت إلى إشارة المرور لكي أبدأ في عملي اليومي وإذ بي أتقدم نحو سيارة فارهه وأقدم إلى صاحبها كيس مناديل لكن زجاج سيارته الذي أغلقه في وجهي منعني من الوصول إليه . عنده حق فأنا بالنسبة له جرثومة من حشرة ناقلة للأمراض لا يهم فلقد تعودت على ذلك من الأثرياء من تلك النوعية التي تظن أننا ليس لنا حق في هذه الحياة مادمنا لا نملك ما يملكون توجهت مسرعة إلى سيارة أخري بداخلها إحدى السيدات إنها امرأة جميلة حقا ترتدي ملابس باهظة الثمن وتظهر مفاتن جسدها من بين ملابسها تمسك بين يديها سيجارة من نوع فاخر إنني حقا منبهرة بها من جمال السيدة ومن ملابسها و سيارتها ولسوء حظي عندما تقدمت إليها بيدي التي أمسك بها كيس المناديل كانت تريد أن تطفئ السيجارة فألقتها على وجهي وسقطت من بين ملابسي ورحت أبعد ملابسي عن جسدي لكي تسقط منه السيجارة أما المرأة فكانت تنظر لي بدهشة وللأمانة أنها لم تشاهد شىء مما حدث والحمد لله سقطت السيجارة على الأرض لكن لسوء حظي مرة أخري فتحت الإشارة وانطلقت السيدة بالسيارة قبل أن أقدم لها كيس المناديل ذهبت إلى الرصيف وجلست أندب حظي السيئ على أثر ما حدث لي وكان بداخلي غضب شديد من تلك المرأة التي ألقت بسيجارتها بداخل ملابسي ألم تشعر أنني اتألم أمامها حتى أنها لم تسأل ماذا بي بل اكتفت فقط أن تنظر لي بدهشة وأنا أحاول أن أبعد ملابسي عن جسدي الم يشعر قلبها بشئ اتجاهي وأن أشعر ماذا سيحدث يجب أن أترك تلك العاطفة خلفي وأحمد الله على ما حدث كما علمتني ستي وأعود وأتابع عملي وقفت في انتظار الإشارة وما أن وقفت السيارات إلا وتوجهت مسرعة و منادية مناديل يا باشا مناديل يا هانم وأتوجه نحوهم بأكياس المناديل والجميع ينظر لي دون جدوى وأخيرا نادني أحد الرجال توجهت مسرعة نحوه وإذ به يطبق يده ويمدها لي ويعطيني ورقة بعشرة جنيهات ويأخذ كيس المناديل مني فقلت له هل معك يا سيدي جنيها ( فكه ) فضحك في وجهي برضاً تام وقال لي لماذا ؟ فقلت له لأنني كل ما أمتلكه الآن لا يكفي الباقي يا سيدي عندها ضرب على كتفي بلطف وقال لي لا أريد منك باقي بل كل ما أريده منك أن تدعين لي فأنت يبدو عليك بنت نظيفة و قلبك أبيض عندها شعرت شيئا بداخلي تبدو وكأنها فرحة فرفعت يدي إلى السماء داعية اللهم نور قلبك بالحب و أملأه بالبهجة والسرور عندها فتحت الإشارة وانطلق الرجل بسيارته وأنا رجعت إلى الرصيف ولا يزال بمخيلتي تلك الابتسامة التي تحمل كل معاني الحب للآخرين في وجه ذلك الرجل فليرضه الله مثلما أرضاني وجلست على الرصيف حتى تستريح قدمي قليلا لقد أذهب الرجل كل الغضب الذي كان بداخلي تجاه تلك المرأة التي ألقت علي سيجارتها وكأنه كالرياح التي أتت فلم تترك غبارا على الأرض واستمر العمل . هناك من يبتسم في وجهي و يراضيني وهناك من لا ينظر لي ويجافيني وأيضا هناك من ينهرني وكل شىء بات طبيعيا فلقد تعودت على كل ذلك ولكنني وللأمانة بين الحين والآخر اشتاق إلى من يضحك في وجهي كي يشعر قلبي أن هؤلاء الناس هم من يبعدون الهم عني اقترب النهار عندها ذهبت إلى ستي العجوز التي غالبها النعاس وهى جالسة أيقظتها برفق وأخذتها وأخذت ما تبقي معنا من مناديل وأعطيتها ما رزقني الله به من مال وتوجهنا إلى المقابر التي نسكن فيها وبعد أن تناولنا الطعام في تلك العشية وقبل أن أنام تذكرت ما حدث لي من تلك المرأة لأن أثر لهيب السيجارة لا يزال يؤلمنى عندها سألت ستي سؤالا قلت لها لماذا يا ستي يشعر بنا بعض من هؤلاء الناس و ينكرنا البعض الآخر؟ فقالت لي في حب و حكمة من يشعر بنا فهو قلبه مثل قلبنا يملؤه نور الله و حب الآخرين يعلم حقيقة الحياة وهي الفناء و الزوال أما من يستنكرنا يا صغيرتي فهو قلبه أعمي لا يرى إلا نفسه و شهواته يملأ مخيلته الدوام ويعتقد أنه باقٍ على الأرض ما دام معه ما يكفيه من مال ولكن يا ابنتي دائما يرضينا الله فهو وحده الخالق العالم بالقلوب وهو القادر على إصلاحها فلا تنظري إلى من أظلم الله قلبه ولكن أنظري إلى من أنار الله قلبه فهم من ينيرون الحياة من حولنا سمعت تلك الكلمات من ستي العجوز فشعرت بقلبي ينبض بحب الله ولساني ينطق بالحمد لله ثم توجهت إلى ذلك المكان المخصص لي بداخل العشه لكي أنام دون التطرق إلى أي حديث آخر .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى