عبد القادر وساط - ما دارَ بين الطاغية و الأعرابي الأسَدي

جاء في كتاب " إتحاف الخلان ":
حدثنا الشيخ أبوالفضل النجداني، قال:
أرقَ الطاغية ُ ذات ليلة، فدعا الشيخَ ظفْر الزمان، صاحبَ شرطته، فقال له: " ابْغِني رجلا عالما بالشعر والأخبار، يحدثني و ينشدني، فغاب صاحب الشرطة نصف ساعة ثم عاد و معه أعرابي شيخ ، فسأله الطاغية:
- منْ و ممَّن الرجل؟
فقال:
- أنا رجُلٌ من بني أسَد ، أيها الطاغية ، اسمي إبراهيم بن سُرَيب ، و الناس يلقبونني سجْع الحمام ، لعذوبة كانت في صوتي زمن الشباب.
فابتسم الطاغية و قال :
- رحم الله أبا نواس الذي قال :
قالوا ذكرت ديار الحي من أسَدٍ = لا درَّ درُّكَ قلْ لي منْ بَنُو أسَدِ؟
فنظر إليه الأعرابي غير هياب و قال :
- أيها الطاغية ، إن أبا نواس لم يسخر من بني أسد فحسب ، فقد قال في البيت الذي بعده :
و مَنْ تَميمٌ و مَنْ قيسٌ و إخوتهمْ = ليس الأعاريب عند الله منْ أحَدِ
إثر ذلك سكتَ الطاغية ، كأنما يحاول أن يتذكر شيئا نسيه ، ثم عاد يقول للأسدي:
- لقد كنتم ، يا بني أسد، تعبدون كوكبَ عُطارد و تطوفون بالكعبة عراة! و أنتم قتلة حجر بن الحارث، والد امرئ القيس...
قال سجع الحمام :
- تلك أيام خلت ، أيها الطاغية ، حين كان الناس على الوثنية...
قال الطاغية :
- و حتى في الإسلام ، كنتم يا بَني أسد على جانب من رقة الدين ، و فيكم نزلت الآية الكريمة ، من سورة الحجرات ( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين .) و منكم طليحة بن خويلد الذي أسلمَ ثم ارتد و ادعى النبوة !
و لما هزمه المسلمون هربَ و لحق بآل جفنة الغسانيين ....
قال سجع الحمام :
- و لكنه عاد فأسلم ، أيها الطاغية ، و شهد اليرموك و القادسية و مات شهيدا في نهاوند ...و هو معدود ضمن الصحابة الأجلاء...
قال الطاغية :
- أما الأسديّ الذي أعجَبُ بسيرته و أحبّ شعره فهو بشر بن أبي خازم ، و قد كنت أحفظ مفضليته الميمية التي يقول في مطلعها :
أحقٌّ ما رأيتُ أمِ احتلامُ = أمِ الأهوالُ إذْ صَحْبي نيامُ ؟
قال الأعرابي:
- هي من نفيس الشعر، أيها الطاغية . و فيها يقول متحدثا عن محبوبته :
و قد تَغْنىٰ بنا حيناً و نَغْنى = بها و الدهرُ ليس له دوامُ
و فيها يقول عن أعداء بني أسد من قبيلة جذام :
ألمْ ترَ أنّ طولَ الدهر يُسْلي = و يُنْسي مثلما نُسيتْ جُذام؟
و قالوا : لنْ تُقيموا إنْ ظعَنّا = فكانَ لنا - و قد ظعَنوا- مُقامُ
فحرك الطاغية رأسه حركة إعجاب ثم قال:
- قاتله الله ، ما أشعره! أخبرني يا أعرابي، هل تحفظ مفضليته الرائية على الوافر ، التي يقول في مطلعها :
ألا بان الخليطُ و لمْ يُزاروا = و قلبك في الظعائن مستعار ؟
قال الأعرابي:
- نعم أحفظها ، أيها الطاغية ، و منها قوله :
و في الأظعان آنسةٌ لَعوبٌ = تيمّنَ أهلُها بلداً فساروا
فبتُّ مسهداً أرقاً كأني = تمشَّتْ في مفاصليَ العُقارُ
و بشْر هذا ،كما لا يخفى عليك ، يا سيدنا المستبد بالله ، هو صاحب البيت المشهور:
فرَجّي الخيرَ و انتظري إيابي = إذا ما القارظ العنزيُّ آبا
قال الطاغية :
- و أما شاعركم عبيد بن الأبرص ، فلست أحب قصيدته التي يقول في مطلعها
( أقفر من أهله ملحوبُ / فالقطبيات فالذنوب)
فهي قصيدة مضطربة الوزن ، مهلهلة المعاني.
قال الأعرابي:
- ولا تنس شعراءنا في الإسلام ، أيها الطاغية ، و منهم الكميت بن زيد و منهم الأقيشر الأسدي صاحب البائية المشهورة التي يقول فيها :
سأل الشرطيُّ أنْ نسقيَهُ = فسقيناه بأنبوب القصبْ
إنما نشرب من أموالنا = فسَلُوا الشرطيَّ ما هذا الغضبْ ؟
قال الطاغية :
- و لكن لغة شعراء بني أسد في الإسلام ضعيفة و لا يعتد بها ، أليس كذلك يا أعرابي ؟
فأجابه الأعرابي:
- أيها الطاغية ، يكفينا فخرا قول يونس بن حبيب: " ليس في بني أسد إلا خطيب أو شاعر أو كاهن أو فارس ."
فلما سمع الطاغية كلام الأعرابي و تبين له مدى إلمامه بأخبار قومه و أشعارهم ، دعا صاحب شرطته و قال له : " امض حالا فأيقظ كبير وزرائنا من نومه ، و أخبره أنني قررتُ تعيين الشيخ سجع الحمام هذا وزيرا للقبائل في حكومة نجدان !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى