حميد الحريزي - دراسة ((بائع القلق)) للقاص انمار رحمة الله

أنمار رحمة الله ( بائع القلق ) فهل من مشترٍ؟؟

151-انمار_رحمة_الله.jpg


قول في القصة ، وقفة عند العنوان :-



الادب / منتج ذات انسانية متفردة تمد خيوط الكلمة صوب شمس الحرية وفضاء الجمال والحكمة ،تفجر نبع الذات المنتجة ، وتوفر المتعة للمتلقي ، في مراحل التطور البشري، وتنوع اشكال وأساليب هذا المنتج الذاتي الشفاهي والمكتوب مما استوجب بالتالي الى تصنيفه الى شعر ونثر ثم تفرع من كل منهما فروعا اخرى .

ملخص القول الادب فن الإبداع غذاء ألروح رافعة الحب ، رافعة الجسد ، مفجر الاحلام والشجون مولد الجمال والحكمة ، مقاتل القبح على مر العصور .

الذي يهمنا هنا هو جنس القصة القصيرة ، التي هي عبارة عن مقطع عرضي وطولي مقتطع من الحياة اليومية للإنسان ، يختزل سرد حدث عبر فعل لماح يرافق مسيرة البطل منذ خط الشروع ثم المرور عبر الموانع والكوابح او الميسرات والدوافع للوصول الى الخاتمة سواء ما هو سار او محزن ، متوقع او صادم بالنسبة للقاريء .

القصة القصيرة | مخلوق رشيق ، ممتع ، جذاب ، معبر ، خفيف الدم ، لماح فطن ، يؤمن بمقولة خير الكلام ما قل ودل ، يتبع مختلف الاشكال والأساليب ليحقق صفاته ومواصفاته اعلاه يتأرجح بين الواقعية اللماحة ، والانتقادية والواقعية السحرية والغرائبية ، يرويها على لسان انسان او حيوان او كائن مخلق في مخيال القاص وغير مألوف بالنسبة للمتلقي ...

في الوقت الذي تشكل فيه القصة القصيرة صفحة او فصل من رواية فالقصة القصيرة جدا هي روح القصة القصيرة بدون توصيف ولا تعريف بل هي ومضة بارقة تومض امام ناظري المتلقي ثم تختفي لتترك اثر ما في مخيلة القاريء ، انها ثمرة على شجرة من دون اوراق ولا ازهار ، ثمرة تلتف على بذرة هي روح الروح في القصة القصيرة جدا ...

هذا الفن الابداعي الرائع بحاجة الى خالق متدبر مفكر ، يمتلك الحنكة والتجربة ويمسك زمام الكلمة ويتقن ملامح الصورة ليتمكن من انتاجه ويكون في مستوى متطلبات هذا الكائن الجمالي المدهش ...

امامنا مجموعة ((بائع القلق )) القصصية للقاص انمار رحمة الله ، الصادرة عن دار الرافدين للطباعة والنشر الطبعة الاولى 2018 المؤلفة م 92 صفحة تضم بين ضفتيها ((91)) عنوانا لقصة قصيرة وقصيرة جدا وهي المجموعة الثالثة للقاص انمار .

المجموعة من خلال عنوانها اللافت ((بائع القلق)) تثير تساؤل وهو مايرمي اليه القاص بوعي كبير منه كما نرى ، فلا حياة بلا قلق ، لا جواب بلا سؤال ، لا حدث بدون حديث... انها دعوة للإنسان للتفكر والترقب والتدبر ، دعوة للحركة والبحث عن الجوهر ، البحث عن المستتر خلف المخفي والمضمر ، كشف المستور وفضح المستتر ، وضع جمرة في يد المتلقي ليستشعر وجوده ، تحريك الساكن وإعراب المتحرك لمعرفة محله من الاعراب في جملة الحياة المعاشة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، وهل الحركة تناسب بالفعل موقعه في بحر الحياة ؟؟؟

هذا المالك لهذه البضاعة بضاعة القلق يسائله القاريء والمتلقي عن مصدر بضاعته هذه وعن سر تجارته التي تبدو في حالة التسطيح والمألوف بضاعة خاسرة يتجنبها الناس ويبتعدون عنها ، الانسان في طبيعته ميال للسكون والاستقرار والاطمئنان نابذا المغامرة والقلق والترقب ...

لا شك ان القاص يمتلك الاجابة حول هذا السؤال المنطقي والمشروع ، على القاريء للنص ، والمتلقي ان يغادر وضع السكون وحالة الكسل الفكري والمعرفي ليستنتج الاجابة عن سؤاله من خلال التفكر في قصص المجموعة ودلالة احداث وتالويلات وسلوكيات ابطالها ، ان القاريء والمتلقي ربما لا يمسك بكل دلالة الجواب إلا اذا كان قد عاش تجربة الكاتب وتفاصيل حياته وامتلاكه لشبكته الفطنة التي استطاعت ان تصطاد كل هذه الكائنات الكتابية الحية من بحر الحياة الهائج ومعرفة المكان الذي ترمى فيه هذه الشبكة ليكون الصيد افضل من حيث الكم والنوع ، العيش في جزر وخلجان وسواحل هذا البحر في لجته وهياجه واسترخائه وسكونه ...

لا يسعنا ان نرى عدد من اقبلوا وسيقبلون على شراء الكمية والنوعية من بضاعة انمار رحمة الله المعروضة امام انظار الجميع ، ولكن نزعم اننا سنكون من زبائن ((بائع القلق )) الدائمين لشراء بضاعته الحاضرة والقادمة ، نملك الاستعداد للوقوف في الطابور لنحصل على حصتنا من هذا القلق الانساني المنتج ...

نحاول ان نتفحص مفردات بضاعتنا واحدة واحدة لنرى هل هي بمستوى ما بذلناه من مخزون فكري وانتظار وجهد انتظار وترقب في طابور الشراء لأجل الحصول على مبتغانا من حاجتنا من قلق الحياة لفهم كنهها ومتعرجاتها وتحولاتها ...

لأرى بالتالي ما الذي تغير من مقاسي بعد اكمالي قراءة وتفكر ((بائع القلق )) كما يقول ديفيد سيدراس في مقدمة المجموعة :-

(( القصة القصيرة الجيدة ، تنتزعني من نفسي ، ثم تقيدني اليها بصعوبة ، لان مقاسي قد تغير ، ولم اعد مرتاحا بداخلي كما كنت قبلها )) م ص4.

يطوف بنا (انمار رحمة الله )) في مركبة خياله المدهشة ، في عالم غرائبي عجائبي ليلف بنا في تعرجات حياتنا اليومية في ادق تفاصيلها يفتح لنا المخبوء ، ويظهر لنا الصور السالبة ، حاملا بوصلته الجمالية متسلحا بعدته الفكرية المنحازة للجمال والمحبة والعدل والسلام وهو يستعرض صورا من السلوكيات الانسانية المختلفة مرددا امنيته الاثيرة :-

((تمنيت ان يسرقني فايروس الفرح ، ذك الفايروس اللعين الي سرق عائلتي ونبذني وحيدا في غرفتي بلا عائلة أو كتابة )) ص81.

نعم سرق الفرح زوجته ((محنة )) رفيقة حياته منذ الطفولة والصبا والشباب ، سرق منه طفليه الاعز على قلبه (( كآبة )) و ((قلق))!!!

فما اجمل هذه السرقة وما اجمل وأنبل هذا اللص ((الفرح)) نتمنى ان تفتح كل الابواب والنوافذ والطرقات لهذا اللص الرائع ليسرق الحزن والألم والمحنة والخراب من كل البيوت والمدن العراقية ليعم السلام والحب والفرح ، مخاطبين ((انمار)) ان يدلنا على هذا السارق الجميل ...

ان اسلوب السرد الشيق وخيال الكاتب الواسع ، ادخل المعقول في جوف اللامعقول وبالعكس نماذج السلوكيات الانسانية في مجتمعنا الحاضر ، فمن اناس بلغ بهم النهم والقبح واللاذوق اكل اللحم الحي المجسدة في سمكة كبيرة اصطادها حارس النهم السياسي الكبير ، هذا الحارس كلب الصيد الذي يصطاد فرائسه ليضعها في جوف سيده كما في ((تآمر)) ص12. وقد كان مصيرهم الغرق نتيجة وحشيتهم .

ونزعة الشر ونشر الخوف والهلع بدلا من الفرح كما في (( عودة سانتاكلوز)) ص34، قتل روح المدينية والتحضر والجمال عبر هيمنة روح التصحر والوخز والغلظة العاقولية كما في ((عشيرة العاقول)) ص73، ماذا يبيت مدعي محب اليمام الذي اغدق عليها بالطعام لتكون بالتالي طعما لشراهته وحيونته كما في ((محب اليمام )) لنكون على بينة من حقيقة من استغفلها بعطفه ولطفه الزائف ومن ثم التهمها ولم يبقي لها اثر .

كما ان الكاتب يعرض لنا حالة الانسان المتسائل الواعي المقاوم لمظاهر القبح بمختلف انواعه مبتليا بوعيه بدماغه المشاكس الذي لا يريد ان يخضع لواقع زائف ومتردي لا يجد الحال والسكينة إلا باستبدال مخه بمخ ((خروف)) كما في ((صوت الحملان )) ص78.

يؤشر لنا الكاتب واقع مصادرة حياة الانسان في المجتمع المستهلك المتخلف حيث توضع في رقبته مشنقة الاعراف والتقاليد والقيم السائدة حتى تؤدي الى هلاكه في محاولة عبوره للضفة الثانية حيث الحرية وامتلاك ألذات وقصر فعل مساعده فبدلا من ان يخلع المشنقة من رقبته يحاول ان يمسك بحبل المشنقة ليبقيه طافيا في الماء ويحول في غرقه فيذهب فعلا هباءا وبالتالي يغرق الاثنان تحت ضغط المشنقة كما في ((طريق المشنقة )) ص70.

في قصة ((صداقة )) ص 30، و ((الحديقة السرية )) ص41، و ((اللص)) ص44، و((مدينة الاقفال)) ص80.

يؤشر لنا انمار حالة المجتمع الظالم الذي لايمتلك روح وثقافة المحبة والتضامن ولا يدفع الفرد إلا لطريق الجريمة والقتل ليفوز بالحياة والحصول على لقمة العيش ، لا يعني رفضه لهذا الخيار النابع من سلميته وطيبته ومقاومته للانحراف والانجراف في طريق الشر إلا بالقضاء على حياته وحياة من يحب بالأداة الوحيدة التي يسرها له المجتمع ((السكين)) التي تستعصي حتى على البيع ولا تجيد إلا القتل كما في ((قبل مجيء الصباح ((ص82.

في قصة ((اضراب)) يرفض الابن الحياة الموعود فيها ضمن واقعه المعاش كحياة والده حيث القهر والجوع والخوف والحرمان فيضرب عن الطعام حتى الموت للخلاص من ارتهانات حياة بائسة وغير عادلة .

يذكرنا انمار ب اريك فروم في ((الهروب من الحرية)) في مجتمع خاضع خانع مستسلم لقيم الخراب والرذيلة والعنف ومحاربة الطيبة وقيم الخير والانسانية عند الانسان ورفضه مغادرة عبوديته ، المباهاة بسلاح الجريمة والقتل لتكون هي الثقافة اللسائدة التي زرعها السفاح بفأسه بين ثنايا المجتمع كما في قصة ((ديستوبيا)) ص61.، وفي قصة (( كحول ومئذنة )) حيث تهيمن سلوكيات الجهل وعدم التمييز بين الحلال والحرام ونسيان مقولة ((من احيى نفسا كانما احيا الناس جميعا )) فتموت الطفلة البريئة بسبب التفسير الخاطئ لتعاليم الدين ورفضهم تبرع ((السكان)) بدمه المطابق لدم المريضة لإنقاذ حيتها بدعوى النجاسة والحرام .

الحقيقة ان كل قصة من قصص المجموعة بحاجة الى مقالة منفردة لبيان مغزاها ومبناها ناهيك عن بيان حنكة الكاتب ومهارته في السرد الهادف الذي لبس اجمل ثياب الابداع المنتجة قماشتها في معمل الواقع المعاش رغم غرابتها الظاهرية بعيدا عن الزخرف اللفظي الزائد ، مجيدا لوصف البياني البليغ وكما يقول انريكي اندرسون امبرت:

(( يوقف الوصف الزخرفي مسار الحدث .. اما الوصف البياني فو يساعد الحدث في مساره )) ص*320

... ياخذنا القاص في عالم من الفنتازيا والغرائبية والخيال الخصب في عدد من قصصه كما في ((ساعة الطفل )) وفي ((انتظار جوجل)) و ((الكلماتي)) و ((رقاب متجرة )) وغيرها من القصص التي ربما استعصى علينا فك طلاسمها ودلالتها ولكن لم تفتنا متعة ورشاقة سردها وبلاغة مفرداتها .. ليكشف لنا عن قدرة قاص مميز ، في الوقت الذي لم ينزلق الى طريق المباشرة الفجة في السرد القصصي فقد كان في عمق الواقع والقدرة الكبيرة على فهمه وكشف زيفه وتعريته امام القاريء الفطن متمكنا من اجباره على فتح محفظة فكره لشراء جرعة من القلق الانساني المشروع من متجر ((بائع القلق )) الذي أحتضن اثمن البضائع المغذية للروح والمنشطة للفكر .

في الختام نتمنى ان لا يستجيب القاريء لتوصيات ((اليد)) ص 89 ، ويمتنع من الاستحمام في حمام الفوضى العمومي ... ولا يضطر الى ((لبس بذلة انيقة ، بذلة مصنوعة من افخر اقمشة الغباء...))

لا يشكر هذه اليد بل يحرقها بنار وعيه ومحبته وذكائه سعيا الى حياة الحب والجمال والسلام ...

· القصة القصيرة – النظرية والتطبيق – تاليف انريكي اندرسون امبرت – ترجمة علي ابراهيم علي منوفي – مراجعة صلاح فضل - المجلس الاعلى للثقافة ط1 2000.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى