محمد فري - مشكلته امرأة

القصة هذه المرة ليست لي..بل هي لسارد آخر، قال إنه قرأها قديما، منذ عهد مراهقته..ولا يتذكر أين، كل ما يعرفه أنه اطلع عليها في مجلة فرنسية نسي اسمها بدورها..وأنا بدوري أنقلها عنه كما حكاها لي..لا فضل لي فيها إلا جملا وعبارات وصياغة نمقتها كيفما اتفق لتناسب موضوع النص ورهانه..وبذلك أنفي عني كل تهمة بالانتحال
أو..السرقة..فالعهدة على السارد الأول..وما أنا إلا سارد ثان مسخر لقلم كاتب معين..قال لي ساردي الأول:
" مشكلته امرأة.. ظل طيلة حياته يبحث عنها .. امرأة ترافقه وتنعش وحدته..يأنس لها وتأنس له..تشاركه همومه وأحزانه..وتقتسم معه أفراحه ومسراته.جرب مرات عديدة أن يقترب من امرأة، ويربط علاقة صداقة على الأقل..غير أن الفشل كان دائما حليفه..لا يتذكر امرأة حام حولها إلا واختصرت حديثها معه وابتعدت .. خيل إليه أنه كلب أجرب يدعو إلى النفور.استعان بجميع الوسائل.. قرأ جل الروايات العاطفية.. وشاهد جل الأفلام الغرامية .. واستفاد من جميع النصائح التي قدمها له أصدقاؤه.. خصوصا أصحاب الباع الطويل في الميدان..قلد جميع طرقهم..واتبع أدق مناهجهم، لكن النتيجة بقيت ثابتة دائما.. تساءل كثيرا عن أسباب هذا الفشل..فلم يعثر على جواب شاف.. منصبه محترم.. يحسده عليه الكثير..وهو ودود مع الجميع.. لطيف المعشر.. يتأنق في حواره..ويختار كلماته وعباراته عند كل حديث..لبق لطيف.. لايخلو حديثه من أبيات شعرية غزلية رقيقة.. كل رفاقه يثنون عليه.. ويتحلقون حوله خصوصا على طاولات المقاهي.. حيث يسخو جيبه..ويفيض كرمه..لذا كثر الأصدقاء دون الصديقات.. والرفقاء دون الرفيقات .. ولم تعره إحداهن اهتماما.أصدقاؤه ناجحون في علاقاتهم النسائية..وأغلبهم متزوجون سعداء بزوجاتهم.. أما هو..فيكتفي بمراقبتهم وغبطتهم.. ألف الفشل وتحالف معه.. بل ربط معه علاقة وثيقة.حقيقة أنه يفتقر إلى الوسامة.. وكثيرا ما التقطت أذناه لفظة البشاعة.. وصفة بشع.. يحملها الهواء إليه من تعريضات البعض وتلميحاتهم.. لكن ذلك لم يكن يهمه.. واعتبره غيرة وحسدا.. فمكانته الإدارية المرموقة تثير حقد الكثيرين.. ثم..إن جمال الرجل أخلاقه.. و.. ما يملكه.. ذاك ما يحدد مكانته الاجتماعية.. والحمد لله هو لا يشكو من هذا الجانب.. وماذا يريد النساء أكثر من ذلك؟يعرف أصدقاء كثيرين لهم زوجات جميلات.. يغبطهم على حياتهم السعيدة الهادئة.. فليته يسعد يوما ما.. ويوفق إلى بنت الحلال !!لكن !.. ما العمل؟.. العين بصيرة واليد... فارغة من كف ناعمة تضغط عليها بحنان.. فليعانق وحدته.. وليستسلم لقدره وصبره.. والله مع الصابرين .. وهو مؤمن بمصيره.. والمؤمن مصاب... ولن يفوز إلا الصابرون !.. ثم إن للحظ أحواله..فقد يأتي ما لم يكن في الحسبان.وأتى ما لم يكن في الحسبان.. ولعب الحظ لعبته..فهاهي فتاة جميلة تثير انتباهه.. كانت سعادته صاعقة عندما اكتشف اهتمامها به.. كانت تمر أمام مكتبه بالإدارة.. فترمي ببصرها إليه وهي مستمرة في سيرها.. حقا.. لا بد أنها نظرة لها معنى.. فالأمر ليس مألوفا لديه.. فالنظرات كانت تقتحمه دون أن تثبت فيه.. ونظرة هذه الحسناء طويلة وثابتة.. فهل غمزت الصنارة.. ووُفق إلى ضالته؟توكل على الله.. واستجمع كل جرأته، وقرر أن يواجه الأمر بحزم .. فالمسألة فرصة نادرة.. والفرص لا تتكرر.. وعليه اقتناصها قبل فوات الأوان..وكاد أن يصعق أكثر عندما استجابت بسهولة لرغبته في التعرف عليها.. اكتشف أن بها أضعاف لهفته !! .. ولولا تماسكه لطار لبه وفقد رشده.. أخيرا وجد امرأة.لم يصدق نفسه وهي تستدعيه إلى فنجان بالمقهى المجاور.. فقبل الدعوة دون تردد.. وتعددت الفناجين.. وتعددت الجلسات..وكثر الحديث بينهما.. وتعددت جوانبه.. وكان يجد متعة في أسئلتها الكثيرة التي لا تنتهي.. وكلها تتعلق بأحواله وأموره.. العامة منها والخاصة..واعتبر ذلك اهتماما فائقا به من جانبها.. خصوصا وأنها تدون كل ذلك في دفتر أنيق لا يفارقها كلما كانت معه.. هو مهم إذن بالنسبة إليها.. إلى درجة أن جل أقواله تستحق التسجيل من طرفها.. وهي ضالته المنشودة التي طال بحثه عنها.. وأخيرا اهتدى إليها .. أو اهتدت إليه..لا يهم.. يكفي أنه استعاد ثقته بنفسه..وأيقن أنه مثل جميع الرجال..والفضل يعود إليها.. لم يهمه أن يعرف عنها الكثير.. سمع منها فقط أنها طالبة بكلية الآداب، شعبة علم النفس.. وأنها تعد أطروحة هذه السنة..وهو لا يريد أكثر من ذلك.. يكفيه أنها فتاة جميلة وأنيقة في كل شيء.. حتى في أسئلتها التي تمطره بها.. ما أحلى أسئلتها التي تتعقب كل دقائقه.. وما أعذب صوتها وهي تبحث في أموره الخاصة.. مشاعره.. أحاسيسه.. انفعالاته..هي إذن فتاة مثقفة.. والمثقفون من عادتهم التدقيق في الأمور.. وهي تدقق لأنها ستبني سعادته معها.. وهو أمر طبيعي.استسلم للأحلام الوردية.. وانشغل بفتاته.. ونسي كل شيء.. والحقيقة أنه لم يكن هناك شيء يستدعي أن ينساه.. فدماغه كان مشغولا دائما بالبحث عن امرأة.. وها هي امرأة في أجمل صورة..مرت بضعة أيام.. وارتاح للزمن وهو يدور دورته معها..وذات مرة وهما بالمطعم الذي اعتادا تناول الطعام به..اضطرت فتاته أن تقوم لإصلاح زينتها بعد انتهاء الوجبة..وبقي وحيدا على المائدة.. يواجهه دفترها الأنيق الذي تركته.. لعلها نسيته.. أو لم تنتبه إليه.. فقد كانت حريصة على وضعه في حقيبتها بعد انتهاء كل حوار.. وفكر أن يتناوله ليعيده إليها بعد عودتها.. امتدت يده إلى الدفتر.. وتاقت نفسه أن يستغل ظرف غيابها ليتصفح بعض عبارات المديح والإطراء.. وربما يجد غزلا وهياما.. وجملا تفيض بالحب والوله..و.. حدثت المفاجأة الثانية.. وكانت القاضية.. لأن الأولى كادت تفقده أعصابه فقط عندما أقبلت عليه فتاته..هوت أحلامه كصخور تتدحرج من أعلى.. وتشنجت أصابعه على الصفحة الأولى.. وقد كتب عليها بالخط العريض:
البشـــاعة والاكتئـــاب
حالة نموذجيـــــة
أطروحة لنيل شهادة الماجستير
شعبة علم النفس
للطالبة:فـــلانـــة ( ضع أي اسم مناسب )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى