عبد القادر وساط - الطاغية يعتقل شعراء الضرورة

جاء في الجزء الرابع والعشرين من كتاب " إتحاف الخلان بأخبار طاغية نجدان مع الشعراء والوزراء والأعيان":
أخبرنا علقمة السلولي، عن جابر بن الأعجم، عن طفيل بن شبيب، عن شيخنا أبي الفضل النجداني، قال:
شهدتُ مجلسَ الطاغية يوماً وقد جيء ببعض شعراء الضرورة وهم يرسفون في القيود، وفيهم موسى شهوات وهدبة بن خشرم العذري وأبوحية النميري وسراقة البارقي وآخرون يزيد عددهم على العشرين، فنظرَ الطاغية أولَ ما نظر إلى موسى شهوات وقال له:
- يابنَ يَسار ، أنتَ القائل في إحدى قصائدك:
( ثمّ نادي إذا دخلتَ دمشقاً = يا يزيدَ بن خالدِ بنِ يزيدِ )؟
فكيف أجزتَ لنفسك إثباتَ الياء في ( نادي) وهو أمْر؟ كأنك توهمتَ أن الياء كانت متحركة فأسكنتَها للجزم! والله لولا أنك كنتَ تجلب السكّر من أذربيجان إلى المدينة، فتنفع به الناسَ، لعاقبتكَ على هذه الضرورة الشعرية الشنعاء شرّ عقاب.
ثم إنه أشار إلى الحرَس بفكّ قيود الشاعر وخاطبه بقوله:
- امض لحال سبيلك يا موسى. وإياك أن تسألني شيئا، فإني أعرف أنك سؤول مُلحف، تتباكى كلما رأيتَ مع أحد من الناس شيئا يعجبك من ثوب أو متاع، وتشتهي أن يَكُونَ لك. وإنما لهذا السبب سُمّيتَ موسى شهوات. واعلم أن الإلحاف في السؤال أمْرٌ مذموم. وقد قال الله في كتابه العزيز، في سورة البقرة: ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ) .
قال الشيخ أبو الفضل النجداني:
فلما نُزعت عن الشاعر الأغلال، نهض واقفاً وحيّا صاحبَ نجدان بتحية الطغاة، ثم قال له
- أيها الطاغية، ليس ما بلغك عني بصحيح، وإنما سُميتُ موسى شهوات لقولي في يزيد بن معاوية
( لستَ منا و ليس خالُكَ منا = يا مُضيعَ الصلاة بالشهوات )
فابتسم الطاغية لدى سماع ذلك البيت، ثم أشار إلى موسى شهوات بالانصراف، والتفتَ بعد ذلك إلى هدبة بن خشرم العذري وقال له:
- يا هدبة، أنتَ القائل:
( عسى الهمّ الذي أمسيتُ فيهِ = يَكُون وراءَهُ فرَجٌ قريبُ )
وقد أسقطْتَ ( أنْ) بعد ( عسى) والوجهُ إثباتُها. وأحسب أنك شبهتَ عسى بِلَعَلّ، وما كان ينبغي لك. وقد ارتكبتَ الضرورة الشنعاء نفسَها في قولك:
( عسى اللهُ يُغْني عن بلاد ابن قادرٍ / بمُنْهمرٍ جَوْن الرباب سَكُوبِ).
الله لولا أنك شاعر فصيح متقدم، وأنك من رواة الشعر المعدودين، وأن كبير شعراء بني عذرة، وهو جميل بن معمر، كان راوية لك، وأن لك رائية بديعة على الطويل تقول فيها:
( ألا يا لقومي للنوائب و الدهر = و للمرء يُردي نفسه و هو لا يَدري )
وهي قصيدة كان يحفظها والدي، طاغية الطغاة ، تغمده الله برحمته، لسيَّرْتُكَ حالا إلى الكثيب. يا حرسيّ، فكّ قيودَه!
فلما نُزعت قيود هدبة، وقف وحيا صاحبَ نجدان ثم قال له:
- أيها الطاغية، أنا صاحب البيت المشهور:
( عسى الهم الذي أمسيتُ فيه = يَكونُ وراءَهُ فرَجٌ قريبُ)
أما البيت الثاني:
( عسى الله يغني عن بلاد ابن قادرٍ = بمنهمر جَون الرباب سَكوبِ)
فإنما يُنسب إلي من باب الخطأ، وأما قائله فهو سماعة بن أسول النعامي .
قال الشيخ أبو الفضل النجداني:
فلما سمع الطاغية كلام هدبة نظر إلى صاحب شرطته نظرة مخيفة وقال له:
- كيف تصرف أموالا طائلة على الجواسيس والعيون ثم تنسب للشعراء أبياتا ليست لهم؟ امض فورا لاعتقال الشاعر سماعة بن أسول النعامي حتى نرى في أمره، وإياك أن تريني طلعتك قبل اعتقاله!
ثم إنه التفت إلى باقي الشعراء المعتقلين و خاطبهم بقوله:
- أما أنتم فسوف نتابع النظر في ضروراتكم صباح الغد. يا حرسي، امض بهم إلى مخفر " السعلاة "، ولا تأخذك بهم رأفة، فإنهم من الأفاكين، المتآمرين على لغة الضاد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى