إبراهيم محمود - الخط المقطوع بين " أنا " و" نحن "

في المسافة القائمة بين ضميريّ المتكلم: المفرد والجمع " أنا- نحن " تبرز أكثر المآسي عنفَ تمثيل، واستبداد ذات، واختلال علاقات بينية، وسيستام تفكير حياة وموتاً .
إذ لا أسهل من أن يسترسل أحدنا في لحظة وعي الاسم، عن التربية التعسفية التي أُخضِعنا لها فيما يجب علينا التزامه تجاه الآباء وعموم من يكبروننا،وعن إطاعة هؤلاء بمفهومهم الجمعي، بتكرار اللازمة المرعبة: الاحتماء بـ" الـ:نحن " وقاية محمودة من شرور " الـ:أنا " !
حتى الآن، لم نحسن فهم حقيقة هذه/ تلك " الـ: أنا " الرجيمة الذميمة الدميمة مقابل " النـ:ـحن " الحليمة الحكيمة العليمة، ولم يُهيَّأ لفهم كهذا، وليس من تباشير فعلية ذات صلة، إذ لو تم ذلك، في ضوء المدوَّن والمقرَّر والمتداول، فلا بد أن ذلك سيكون نهاية العالم. أهي مبالغة ؟
مازال من يتكلم هنا وهناك بأريحية " وما أكثر حضور هذا المتكلم " بلغة " أنا " إنما يعقّب في الحال " وأعوذ من قولة أنا ". لتكون سُبَّة معمَّمة، ولنجد من يندفع في الحديث بلغة " نحن" رغم أنه أولاً وأخيراً ينطلق من " أنا "، وهذا ينطبق واقعاً في المجمل على خالق الكون، ومن يليه مرتبة، ومن يلي هذا ومن بعد هذا، وليأتي أصحاب السلطة بمختلف ألقابها، وملؤهم حماس باعتماد " نحن " ومتابعوهم ومداحوهم ومزكّوهم على وعي تام أن ليس في " نحن " إلا أنا، أي ليس هناك أي حضور اعتباري لـ" النحن " المسكينة المنزوعة السلاح، إنما سلطة " أنا " في تنوع الأنظمة التي تختلف أسماؤها وتتوحد مضامينها في إنتاج العنف بمراتبه، وما يترتب على مثل هذا التخريج من تبجيل " النحن " حباً في " الأنا " ومد جسورها إلى داخل تلك !
ذلك يستدعي في الحال في المكاشفة الأركيولوجية لهذه العلاقة البينية، وعلى سبيل المثال، كيفية التداخل بين " أنا ونحن " في الخطاب القرآني وسرديات القوة ودلالاتها بين " نحن " المفخَّمة والمعظمة إلهياً، و" أنا " المطلقة وهي تحيل " نحن " إليها، وميكانيزم التواصل مع الخارج من منظور كل منهما" الوضوح الصارخ في مخاطبة ذوي السلطان الأعظم: فرعون وربطه بـ" أنا مطلقة "، كما في المشار إليه " أنا ربكم الأعلى "، ليكون الوضعان مؤمَّمين إلهياً " إنّا- نحن " وكيفية يتقاسمان العالم الأرضي والمفارق، وتجريد ما عداه من كل قوة، ووصل كل ذلك بما كان سائداً، على مستوى الزعامات بتعددية ألقابها " المشيخية- السلطانية وغيرهما ".
أي حيث تمثّل النحن بدعة " المثل الأعلى " والأنا الجزء اليسير من الحياة النفسية الواعية، إلى درجة أننا بتنا نكره أنفسنا،ونبحث عن طرق الخلاص وحتى كيفية الاستتابة، ومن ثم دفع الكفّارة ذات الصلة بذنوب الأنا ومروقها وعقوقها، لأن الأنا ممثَّلة فيها، وأحلنا جل ما نفكر فيه إلى النحن وليس الأنا ساعين قدر المستطاع إلى عدم الخلط بينهما، والويل لمن يغفل عن هذه القاعدة اليقظة الحارسة والضاربة في صهر الأنا في النحن، جهة التشكيك في أمره إذا ما تمادى أو لم يراع ما هو اجتماعي، أي أراد تجاوز نطاق " الحظيرة " حيث يقيم " القطيع .
وبالتوازي مع المتقدم، ليس في الإمكان الحديث عما يُسمى بالهامش والمتن، فما أكثر الحالات التي يكون المجتمع في الخطاب السياسي هامشاً " مهمشاً "، فثمة الزعيم المطلق القوة في " أنا " تجرّد " نحن " من شحمها ولحمها وعظمها، وكيف يجري ربط " نحن " بالقيم الاجتماعية، أو ما يخص العادات والتقاليد وإيداعها جماليات " نحن " وخرافة " المثل العليا " المحفوظة، حيث يتم احتكارها لصالح " أنا " حاكمية، وليبقى صوت " أنا " مريعاً في موقعه وما يستبد به .
في هذا السياق، حتى فرويد نفسه لم يسلم من التقريع والتشنيع والتقذيع بوصفه امتداداً لمؤامرة يهودية- صهيونية على الدين، وربما الإسلام في الواجهة، وتفكيك البنيان العائلي، وهو يضفي على أرشيف المكبوت ودمغته الجمعية أغلب الإحالات المرضية التي تري جرائم النحن .
بالرغم من أن فرويد لم يكن لا عربياً ولا مسلماً، ولا أخذاً بأمور الدين إلا بالقدر الذي يجد القيّمون أنفسهم على ما هو مجتمعي باعتبارهم " النحن " وذم " الأنا " طالما بقيت جلية الأثر.
لئلا يكون هناك أي اتصال ودي بين الطرفين، أو تفاعل يفيدهما معاً، إذ إن ذلك يشكل نوعاً من التحاور القائم على التناظر، وهذا يعتبَر رفضاً لسلطة الأسلاف الصالحين، إن جاز التعبير !
وفي السياق ذاته، هل يمكن الحديث حقاً بالتصور الفرويدي البحثَ في " أنا- هو- الأنا الأعلى" وكيفية تعبيرها عن خاصيتها في النفس ؟ هل لدينا بالمقابل ومنذ تاريخ طويل هذا الفصل بين مكونات هذا الثالوث؟ بين " هو " ومفهوم الغياب، وحضوره الرهيب، على مستوى التحديد الإلهي المطلق، وسلطة الحاكم المطلقة بتنوع أنظمته إسلامياً وعربياً ؟
ربما يدفعني هذا الاسترسال في الكلام إلى عدم وجود أي عقد اجتماعي يمكن الاحتكام إليه لتحديد ما لـ" أنا " من حقوق مشخصة، وما لـ" نحن " من حضور قوى ضابطة للمجتمع.
إذ لا أجدني بعيداً عن مكاشفة الفارق القائم بين " مبدأ التثليث " في المسيحية، وكيف أنه استولد البروتستانتية والتي أوصلتنا إلى ما بعد الحداثة، مثلما أنه استولد الأرثوذوكسية بجبروتها، مقابل " مبدأ التوحيد " الذي يقف وراء ظهور أكثر الأنظمة بطشاً بشعوبها إلى يومنا هذا، فنكاد نفتقر إلى " أنا " تسهِم في توعية مفهوم الحرية، أي الحرية الواعية، و" نحن " وبنيانها المجتمعي، وما بينهما من تفاعلات، من خطوط اتصال، وميكانيزم التجديد والتحول من خلالهما .
ولا أظنني ببعيد عن هذه الدوامة المدوخة والمميتة إن أشرت إلى بنية الكتابات التي نتابعها على الصعيد النقدي أو الأدبي : والإبداعي بصورة خاصة، حين يتسلسل المعتبَر سرداً باسم ضمير الغائب، أو مع التقليل من دور " الأنا " من ناحية المتكلم إلا في العقود الزمنية الأخيرة، وبنوع من الاستحياء انطلاقاً إلى طبيعة العلاقات المنسوجة بين المسهمين في نسج الرواية وغيرها.
وربما كانت الإيروسية في مشهدياتها الجسدية المتداولة وباضطراد في الكتابات العربية: الروائية وعلى مستوى الشعر، بحيث تقلَّص نطاق البوح، ربما كانت التعبير الأمثل عن قيامة هذه/ تلك " الأنا " المحجَّر عليها منذ قرون زمنية طويلة، وما في ذلك من تضييق الخناق على " النحن " أو ما يفصح عن طبيعة المسافة القائمة وتلك القائمة بينهما، إنما غزارة الكتابة ورداءة النوعية ، لأنها أشبه ما تكون بالعاصفة المطرية، تعبيراً عن مكبوت لا يخفي تدميريته بجلاء .
فالذين يفصحون عن مواقف بالقول والكتابة بلغة " أناهم "ذكراً أو أنثى، إنما يتقدمون بوجود رصيد ثقافي، اجتماعي، سياسي، نفسي، يمنحهم مدداً وإثراء من الداخل، وما في ذلك من إمكان تفريق بين المسمى بـ" المبتذل "، وما ينحو صوب الفن وإن وجِد مشهد صارخ " جنسياً "، لأن سياق القول أو الكتابة هو الذي يمارس تنغيماً في أصل العلاقة المركَّبة .
ذلك يشير إلى ما يقرّبنا من الحقيقة وهي أن الكتابة الموحية إلى بروز الأنا لا تعني إطلاقاً على وجه العموم على التحرر الجنسي، أو وعي الجنسانية، بالعكس من ذلك، إن في هذا التنامي الملحوظ في الكتابات التي تراهن على خطاب الأنا ضداً على النحن، ما يعمّق المأساة، كأني بلغته تمارس انتقاماً من تاريخ كان، وإجهازاً على النحن، وذلك من خلال " كشوفات " الجسد السافرة " الفرج- القضيب " وكل ما يثير كوامن الجسد، وما في ذلك من التضحية المباشرة بأهم شاهد مطلوب حضوره والاعتناء به" الفن " أي ما يثير في القارىء ملكة روحية ترقى بذاته، وليس أن تفجّر غلمته أو تسخّن شبقه/ شبقها، وتلك المشاهد المسلوقة في التعرية والجماع، اعتماداً على وصف مطول استهلاكي، وإخلال بكل علاقة سوية تهذب مجتمع الأنا في الأنا.
إن أناي وبوصفها أناي ليست بالصورة التي تمكنني من إدارتها شئونها لأكون في قلب العالم، بدفق كلامي- كتابي، دون مران وتفتح قوى نفسية كافية لجعلها جديرة بمستوى اسمها.
إن معايشة الكتابة وتبع مبدأ الأنا، عبر التركيز على لغة انتقامية أو ما يشبه ذلك، يغلق أفق المعنى الذي يمهّد للتقدم إلى الأمام، وتحديداً في عهدة انفجار وسائل التواصل الاجتماعي، وما لا يحصى من المواقع الالكتروني ومعروضاتها " الجنسية " المبتذلة وبهائمية المرئي، وإن كنت أتحفظ على " البهائمية " لأنها مستعارة من عالم الحيوان المشدود إلى نظام حيوانيته، خلاف المعايَش في الإنسان الذي يفعّل الحيواني المريع ويتعداه أحياناً وهو يذمه.
ذلك يقرّبنا من المجتمع وما يتطلبه من مكاشفة حراكه وتقصّي بناه الثقافية والنفسية والسياسية،خصوصاً في عصر ما بعد العولمة، ذلك ما ضعنا في مواجهة المر اليومي والذي لا ينفك يتوسع ويتعمق وينخر في الجوهر، وهو فشل الأنا في مجمل سياساتها، وخلق ردود أفعال حادة ترجّح البقاء في حضن النحن طالما أن المجتمع، مجتمعنا، في وضعية انحدار مهلكة !


إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى