سعيد الكفراوي - الرائحة

وجعل يحدق في الشمس التي على الماء. يشد مطاط "المايوه"، ساتراً كرشه الصغير، ماسحا ثدييه الساقطين أعلى بطنه، وكتفيه المجعدين بجلد محتقن. يتلصص بعينين ضيقتين، تبدوان عاشقتين للحياة، لكنهما في حقيقة الأمر كليلتان بدرجة تبعث على الحزن.

يهمس لنفسه "امش أيها الكهل. لا تقف هكذا خلف الشماسي". سار بين الصفوف تواجهه الجزيرة الصغيرة، يلطمها الموج من كل جانب. تأملها وهمس لنفسه "الجزيرة".

صوته يخرج نحيلا من مسامه إلى المدى المتوج بالماء، وصهيل الشمس، وهواء سبتمبر الذي يهب من هناك بالحنين.

عندما غمر الماء ساقيه شعر بالبرد، تقدم خطوات حتى وصل الماء وسطه، غطس ببدنه كله للحظة، ثم خرج يشهق. يحس الآن بالماء يتسلل إلى مسامه دافعا بما بقي في جسده من حيوية إلى رأسه فيشعر بالانتشاء، يكشط وجه البحر بكفيه متأملا المستحمين بفرح الأطفال.

ثمة حياة أخرى يأتي بها البحر.

وتذكر أيام شبابه، عندما كان يسبح في نفس واحد حتى الجزيرة. يذهب ويعود أكثر من مرة. يأخذ شصه، وجرابه في يده، ويمضي النهار في الصيد، وتأمل النوارس.

سبح بوهن حتى تجاوز المستحمين. رأى من مكانه رابية الكورنيش، وسمع الصخب يأتيه مختلطا وزاعقاً، وبالونات ملونة في الشمس، وطائرات من ورق تعلو في الهواء جانحة، وثابتة في الريح.

سبح مسافة أخرى، وشعر بغياب القاع عن قدميه. واصل السباحة ثم وقف بطوله توازنه حركة قدميه ويديه. بدأ الرجل يغني بصوت حسن، أغنية شجن من زمن قديم، ثم عاود السباحة.

فوجئ بأنه ابتعد عن الشاطئ، غاب الصياح، وشعر بوحدته مع البحر، ولاحت له رءوس الشماسي تسبح على الماء. امتلأت خياشيمه برائحة البحر، ورائحة الملح، والنباتات. ضربه قلبه عندما رأى أنه ابتعد كثيراً.

"ما الذي تحاوله أيها الهرم؟ ".

وشعر بالرعب.

أخذ شهيقا، وتكاثف إحساسه بالزمن، وغذت روحه نوازع المجانين، وصعدت عبر شيخوخته المتأخرة، التي تحاول اللعب مع الماء. "تذهب إلى الجزيرة؟ " أدرك بالفعل نيته، واستسلم لرغبته في الذهاب.

"الجزيرة بعيدة ونائية".

مضى يضرب الماء ساحبا جسده خلفه، يرى انفلات الموج ناحية شرق الجزيرة، ويقاوم اندفاع البحر بإرادة الوصول.

لما تعب كف عن السباحة. انقلب على ظهره قليلا ثم استوى يسبح. صمت البحر، وغرق في زرقة عميقة، وشع على الماء الغموض. كف عن السباحة فعبث به التيار وتولى قياده. هف الهواء، وبدا له الأمر غريبا، ومدهشا، " أن تفعل ما كنت تفعله منذ خمسين عاما"؟!.

شعر كأنه يستيقظ على لحظة فرح.. اكتشاف.. هل كان يختبر عمره؟. أم كان يحاول من غير عزاء اختلاس لحظة من زمن قديم ولى؟.

"لقد ابتعدت كثيرا، وأنت لا تضمن النتائج على أية حال". عاد وانقلب على ظهره، وطفا رأسه الأشيب على الماء. راقب الشمس وهي تنحرف ناحية "المغارب". تألمت عيناه فأغمضهما، وتكاثف بوعيه صوت البحر.

عاد فواصل السباحة باطراد ناحية الجزيرة. كان النهار يشحب أمام عينيه فيما يثقل عليه جسده، ودوار في رأسه يجعل مساحة الأفق تختلط عليه. خاف من النسيان، ومن ضياع ذاكرته فيضل في البحر. زاد من ضربات يديه، لكنها كانت ضربات واهنة، وبدأ الندم يضرب قلبه الجانح. فزع من الماء الحي، وخاف من الموت وحده.

اشتد تعبه، والجزيرة لاتزال بعيدة، وانتفض قلبه في صدره، وبدأ يسمع صوت لهاثه. أدرك أن الشيخوخة تيار يندفع في العروق، يأتي من أعمق الأعماق بالهزيمة والخسران.

حمله الماء للحظة، رأى الجزيرة تقترب، راية تخفق أمام عينيه، غير ثابتة، أخذ نفسه، وسيطر على لهاثه، همس: " لا. لن أموت الآن ". أراح ساقيه، وخاف أن تتقلصا، واستسلم للتيار الذي يأخذه إلى هناك.

ما إن لامست قدمه اليمنى صخر القاع حتى دبت الحياة فيه. تماسك وهو يخطو على صخور القاع مستعيدا انتظام أنفاسه. لمح الطحالب، والسمكات الصغيرة المنفلتة، والقواقع في مكانها من قديم. أخذته بهجة القاع، وتلك الحيوات الصغيرة النشطة، شعر بانتصاره. نعم.. لقد عاش من السنوات الكثير ما يكفي لهزيمته، لكنه يصعد الآن صخور الجزيرة مضمخا برائحة الماء والعشب، وانتصاره المتوج.

خطا محاذرا النتوءات النارية، وأفواه الصخور المسننة، استوى جالسا على صخرة كان يعرفها في الزمان القديم، هب الهواء باردا، وطيبا، وسمع صوت الرياح المواتية، وعاد يحدق في الشمس الصغيرة الحمراء، ثم عاد لتأمل الجزيرة. كتلة من صخر أبدي، فجوات من عمقها ينبثق الماء دافعا بالأسماك والطحالب، والقواقع الصغيرة التي يصفر بها الريح. سماء فوقه موشاة بلون الأرجوان الذي لا هو بالدم، ولا زهر البنفسج.

طأطأ رأسه الذي ازدحم بالتواريخ، واستند بمرفقيه على ركبتيه وغرق في فكره. قال: "الحياة غامضة، وتدعو إلى الأسى". ثم همس: "إنها تذهب مرة ولا تعود".

ورآهم يخرجون من الكهوف العميقة. صبيان وبنات كأحفاده. ينتشرون على سطح الجزيرة، وكأنهم على موعد. كانوا عرايا كالخلق الأول تستر عوراتهم مايوهات صغيرة، وشعورهم مسدلة، فيما تبدو أجسادهم في لون الشفق. سمع أصداء موسيقى تعلو في الأنحاء، تدوم بلحن راقص. قال: "من أين يخرجون؟ ". كانوا يقتربون منه حتى شكلوا حوله حلقة. كانوا يتأملونه بصمت، ويحدقون في هذا الكائن الخرافي بدهشة، ويتبادلون النظرات. انتابه القلق والتوجس عندما رأى ثباتهم المطلق، وعيونهم المندهشة التي تنظر إليه بغير تصديق، شعره الأشيب، ووجهه المغضن، وثدييه الساقطين، وكرشه الناتئ كبالون.

"هيه.. قضيت أيامك يوما بيوم.. مطاردا تلك التفاصيل الصغيرة التي لا طائل من ورائها، والتي تحاول من خلالها استعادة الأيام، فما الذي يراه فيك الصبيان؟ ".

خاف أن يصرخوا في وجهه، واشتدت ضربات قلبه، أحس كم هو طاعن في السن. كم هو رجل عجوز يبعث على الحزن، وأنه قادم من زمن آخر.

رآهم يبتعدون عنه، لاتزال رءوسهم تتجه ناحيته بغير تصديق. ينزلون إلى البحر واحدا، واحدا، سابحين تجاه الشاطئ حتى اختفوا عن نظره.

عاد ينظر إلى الأرجوان، وبدا حزينا كبستان في الخريف، وشعر بوحدة مطلقة تكاثف رعبه. اشتدت لطمات البحر على جوانب الجزيرة. ثم جاء المساء غير عادل، فيما يجلس الرجل على الصخرة يراقب مجيء الليل، ويخاف الرجوع..

سعيد الكفراوي مجلة العربي فبراير 1994

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى