غائب طعمة فرمان - نظرات في الأدب العراقي

هل هناك أدب عراقي؟

سؤال يسأله كثيرون زلا يظفرون له بجواب مقنع، ولا برأي صائب صحيح.

أما الشيوخ فيزمون بشفاههم احتقاراً وسخرية، ويهزون رؤوسهم ضحكاً من السائل واستخفافاً بالسؤال، فيكفرون بالواقع وينكرون على العراق أدبه، وعلى الشباب يقظتهن وعلى الجيل الجديد رسالته؛ ثم يلقون عليك المواعظ والأمثال ناعين لك الأدب ساخطين على شياطينه الجديدة.

أما الشبان فيرفعون رؤوسهم افتخاراً، ويقرون بوجود أدب عراقي يواكب الحضارة، ويتفق مع روح العصر الحاضر، ويستجيب لضرورات الحياة الحاضرة، وينظر إلى الوجود كينبوع يستمد منه الأدب إلهامهن ويقتطف منه زهرات وحيه.

أما الأولون فمغالون، وأما الآخرون فمغرورون.

والأدب لن يزول عن الوجود ما دامت هناك حياة، وما دام هناك شعور بالحياة. فالوجود العامر بالشعور، المكلل بإكليل الحياة، المتنعم بنعيم الإحساس لم يفقد الأدب ولن يفقده أبد الآبدين.

لأن الأدب - في أبسط مدلولاته - مجموعات تجارب حية يسجلها الفنان في ألفاظ، ويرمز لها برموز ليستدل بها عن رصيدها الكامن من الأحاسيس والمشاعر. . . وهنا يتحدد وجود الحياة، ويترتب عليه إنشاء الفن.

وأخطل الرأي أن نتصور انعدام أدب أمة وهي ما زالت تتنعم بالحياة.

لأنك في ذلك تنكر وجودها، وتسلبها نعمة الحياة، أو تجعلها في رتبة الجماد سواء بسواء.

فلا بد من وجود أدب إذا وجدت أمة، لأنه لا بد من وجود شعور إذا وجدت حياة. والأشياء المحيطة بنا، الملازمة لنا، نتأثر بها، ونشعر بوجودها أو بمكان وجودها في مخيلتنا الواعية؛ ولهذا كله كان الأدب قديم المولد قدم الحياة، واكب الإنسانية في تاريخها، وصاحبها في نضالها، ورسم لها صورة الكفاح مع الطبيعة.

وبعض الناس لا يفرق بين وجود الأدب وازدهاره واكتمال أساليبه الفنية؛ فهم إذ قالوا: إ العراق ليس له أدب عنوا بذلك أنه لا يملك أدباً فنياً مزدهراً.

والحقيقة أن العراق - ككل أمة حية - لها أدب، ولكنه لم يكتمل بعد أساليبه الفنية، وأن الرواد الأولين عند ابتداء القرن العشرين ليذكرون بالإجلال والاحترام لا لأنهم ارتفعوا بالأدب العراقي إلى منزلته العليا، ولا لأنهم أصابوا حظاً عظيماً من التجديد، بل لأنهم عبروا عن الجيل الناشئ، وواكبوا الشعب العراقي في قصة نضاله، وسجلوا آثاره وعواطفه وانفعالاته. ولم يتأخروا عن قافلة الحرية السائرة.

والعراق قريب عهد بنور الحضارة، وقريب عهد بنور الحرية وقريب عهد بنصر النضال والكفاح في سبيل السيادة الوطنية، والاستقلال الذاتي. وما زالت صور الاحتلال العثماني البغيض وتعسفه المؤلم، وأصداء الثورةالعراقية ترن في الآذان، ولا زالت قصة الكفاح لنيل الحقوق كاملة، والاستمتاع بالحياة حرة، والإنعتاق من القيود والأصفاد قصة الشعب العراقي المتكررة الباقية المعادة.

والعراق بلد الثورات والانتفاضات، ومهد الحرية الفكرية في عصر الإسلام الذهبي؛ والعراقي عابد الحرية والاستقلال أبداً لأنه مجبول على الاستمتاع بها، والتضحية لأجلها. وتأريخ العراق سلسلة من الثورات الداخلية والخارجية، وسلسلة من التمرد والتحرر من الوضع القائم. وقصة الشكاية قصة الشعب العراقي التي ستبقى خالدة سرمدية، يشتكي من السلطان، ويشتكي من الطبيعة، ويشتكي من الحياة، ويشتكي من الناس جميعا. ولن تنهى هذه الشكايات لأنها لازمة من لوازم طبعه أو التأمين على حياته.

فمنذ عهد مغرق في القدم كان العراق بركاناً للثورات، وناراً مضطرمة الأوار، لا تخمد نار ثورة إلا لتقوم ثورة أخرى؛ ففي العهد الإسلامي لم يهدأ في حقبة من الحقب ولم ينل منه الاستقرار أي منال. والخلفاء العباسيون لم يستطيعوا على رغم قوتهم ونفوذهم، وامتداد سلطانهم أن يهيمنوا على الوضع، ويسكتوا لهيب النار، فما فتأت الثورات تتوالى، والتمردات تتعاقب، وتراخى الزمن يزيدها عظمة واتساعاً.

والحال كانت أعظم اضطراباً، وأشد نكاية، وأكثر تلهباً عندما زال نفوذ العباسيين، واضطر حبل الأمن، وتناهبت الإمبراطورية الإسلامية أمارات، ودولة نشأت في بقع مختلفة، واشتد النزاع فيها على السيادة السياسية والفكرية، وطال الصراع ولم ينته إلا باجتياح العثمانيين الإمبراطورية المقطعة الأوصال الكثيرة الاضطراب.

والعهد العثماني مظلم كئيب، سارت فيه المأساة بخفوت وصمت، وامتلأت النفوس غيظاً، والقلوب حقداً على الترك المحتلين، ومقتاً لهم، وحباً للتخلص من تعسفهم وظلمهم. . . ولم يسكت العراق عما يجول في ضميره، وعما يضطرم في قلبه من نوازع الحرية، ودوافع الثورة وما أنفك يطالب بالإصلاح ويعلن سخطه على الولاة الظالمين.

وفي العهد الوطني لم يسكت العراقيون، وظلوا يطالبون بالحقوق، ويلهجون بالاستقلال التام، ويتحرقون للعدالة الاجتماعية والديمقراطية الصادقة. والحكومات تتوالى والوزارات تتبع الواحدة الأخرى، والشعب دائب على إعلان السخط. .

فما سبب كل ذلك؟

ما علة التمرد الطويل، والتقلب الدائم، والسخط المستمر؟

من الشائع المفهوم أن للبيئة الأثر الأكبر في تكوين مزاج الفرد، وتلوين نفسه وتمييز طباعه.

فلننظر إلى الطبيعة العراقية لنستشف من خلالها طبائع العراقيين، وأمزجتهم الخاصة، وطابعهم المميز لهم.

الجغرافيون يقولون: أن طبيعة العراق متقلبة لا تثبت على حال، ثائرة لا تستقر على منوال. . . فهو بلد قاري متغير الطقس تغيراً سريعاً ملحوظاً: قارس الشتاء، حاد القيظ، وشمال العراق متوج بجبال عالية تكللها الثلوج، وجنوبه مكتنف بصحراء واسعة جافة، حمراء الرمال، كثيرة الزوابع فكثيراً ما تهب الرياح حاملة معها رمالاً مزعجة حمراء.

في هذا الجو الغاضب المتقلب يعيش العراقي. فماذا يكون مزاجه وطبائعه؟

فلا بد من أن يتقلب كما يتقلب جوه، ويتلون كما تتلون بيئته، ويثور كما تثور صحراؤه وتصخب.

واصطبغ الأدب العراقي الصميم - منذ عصور ازدهاره - بصبغة التمرد على الحياة، والضجر من الطبيعة، والتأفف من الناس. وهذا ما نقرأه في شعر العراقيين الذين يمثلون الطبيعة العراقية، ويستجيبون لوحي البيئة والمحيط. . . وتلك الصرخات الداوية في الشعر العراقي العباسي ما هي إلا استجابة للبيئة. والشريف الرضي والمتنبي جبلان شامخان يبرزان في محيط الأدب العربي واضحي الدلالة، مميزي الأعلام.

ولولا الأثر الذي تركه تمازج العرب بالأمم الأجنبية، وتهافت الأجانب على العراق، وتأثير السياسة العباسية لظهر الأثر، أكثر وضوحا، وأبرز سمات.

ووسم الأدب العراقي بالسخط كما وسم بالثورة، وفقد الرجل العراقي إيمانه الثابت الراسخ بما تسن من نظم، وبما تقوم من حكومات. . . لأن مسرحه المتقلب أفقده الإيمان بالبقاء الدائم في كل ما يرى من الأشياء التي تواضع الناس عليها.

وهذه العوامل مضافاً إليها أثر الإخفاق الدائم في أغلب ما يحاول من أمور، في أعم ما يؤمن به من دساتير وحكومات - خلقت روح الكآبة المرة في نفسه، وأشاعت الألم فيه. . . والإخفاق الدائم يبلغ الفرد إلى الانطواء على نفسهن وإلى الكآبة القاتمة ويضفي روحاً تشاؤمياً خفيفاً على آرائه وعواطفه. . . فهذا لم نشهد في تاريخ العراق الطويل رجلاً نستطيع أن نضمه إلى دعاة التفاؤل، والمؤمنين بسير البشرية إلى الحياة السعيدة، وبلوغها مراتب الاطمئنان والأمان.

وللأسباب ذاتها لم يخلق في العراق فيلسوف يحسب له حسابه، ويشمخ مع الشوامخ من الفلاسفة العالميين.

والأدب الشعبي العراقي يرسم لك النفس العراقية التي صورتها لك تصويراً صادقاً تاماً.

وتلك الخطوط والملامح تعين لك الأدب العراقي وتجسمه تجسيماً واضحاً. . . ولا مناص من وجودها في الأدب العراقي الصادق.

وإذا استطاع العصر الحاضر أن يضع حداً لهذه الملامح والخطوط ويخرج لنا أدباً يميل إلى التحرر من عبودية هذه السمات فالفضل في ذلك لنور الحضارة القائمة على تقارب الأمزجة، وترابط الأمم.

فلم يعد كل قطر مهما بلغ من عزلته وانطوائه على نفسه، وحرصه على البقاء في حدود ذاتيته مستطيعاً أن يقاوم تيار الحياة الجارف القائم على الإخاء والتعاون.

ولكن حذار من أن نفهم من ذلك أن ننسى أنفسنا ونبتر قوميتنا، ونتجنى على تاريخنا ومن الخطأ أن يظن أن القومية والأخذ بأسباب الحضارة الحاضرة طرفاً نقيض. . . ومهما يكن من طغيان التيار الأممي فإن ملامح القومية لا تزول ولن تزول أبد الدهر. . . ونحن العرب لا نزال نعتز بقوميتنا، مقدسين لتاريخنا.

والسمات والملامح التي رسمتها لن تزول كلها أبداً.

وهي قد عنيت لنا الأدب العراقي وصورته، وبينت حدوده وقسماته، وعلى ضوئها يمكن أن ندرس من نحب دراسته من شعراء العصر الجديد لنرى مصداق ما كتبت.

ويجب أن أنبه إلى ملاحظة واحدة قبل بدء الدراسة وهي: أن تلك العوامل السالفة الذكر لم تعط مجالاً لظهور الأدب الذاتي ولم نر إلا بعض الأشباح الهزيلة تظهر شفافة ضعيفة ثم تختفي. .

لأن الحياة الصاخبة القاتمة الممتلئة بالنشاط والحيوية لا تدع للأدب أن ينشئ أدباً ذاتياً بعيداً عن واقع الحياة ودوافعها، بعيداً عن أحاسيس الجمهور وشعوره.

غائب طعمة فرمان
كلية الآداب - جامعة فؤاد الأول


مجلة الرسالة - العدد 768
بتاريخ: 22 - 03 - 1948

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى