محمد علي الرباوي - جلسة مع الخليل

أغلقتُ الباب. أمرتُ الْخَيْثَعور أن يبقى أمامه؛ ليحرسه. أخذتُ طريقى إلى مقهى بابل، حيث ينتظرني الخليلُ بن أحمد الفراهيدي هذا الصباح. كانت الأشجارُ أمامي تأخذ طريقَها إلى الغابة. كانت الفراشاتُ تستنشق نسائمَ البحر، وتحلق أمامي، وهي تستحم بأشعة الشمس الرقراقة. فتحت باب المقهى الزجاجي. كان الخليل جالسا بالركن الأيمن، بجانب نافذةٍ تطل على بحيرة خضراء. على الطاولة إبريقُ الشاي، وهلاليتان. وبأذنيه سماعتان تنقلان إليه فيلمَ le risque du metier الذي أخرجه André Cayatte ببطولة المغني البلجيكي Jacques Brel عبر حاسوبٍ نقال أمامه: كان Doucet معلما بقرية صغيرة. اتُّهِم بمحاولة اغتصاب Catherine وهي إحدى تلميذاته. بينما كان يُعلن عن براءته َحطت عليه بكلكلها اتهاماتٌ أخرى في حجم الصحراء الساكنة في أعماقه.
أخذتُ مكانا بجانبه. وضع النادلُ أمامي فنجان قهوة، وكأسَ ماء. التفتَ الخليلُ، بعد أن حياني قائلا: "شكرا... لأنك أعرتني أَمْسِ هذا الفلمَ الرائع. المغني الشاب كان رائعا في تقمص دوره". ثم سألني: "متى أُنجز هذا الفيلم؟". أجبتُ: "لعل هذا كان في سنة 1967. أذكر أني كنتُ شاهدته بسينما الملكي بالرباطـ وأنا مُعلم شاب. أَحْمَدُ الله أن القسمَ المتوسط الثاني لم يكن به سوى التلاميذ الذكور". أزال السماعتين؛ ليسمعني بوضوح، ثم قال: "أنت طلبتَ هذا اللقاء، ما الأمر؟". أجبتُ: "تَعَقَّبَ أشعاري عبدُ القادر وساط، فعيرني بالْخَبَب. لِـمَ الخببُ جالبٌ لهذا الْعَيْرِ؟. أغلق الخليلُ حاسوبه. نقرأ الطاولةَ نقرتين؛ فإذا برجلين يخرجان: واحدٌ من كأسه، والثاني، من كأسي. سَلَّمَا، ثم أخذا لهما مكانا بجوارنا. حَدَّقْتُ فيهما، فإذا الأول هو بُوقَاش الْجِنِّيُّ الذي يُـملي عليَّ ما أكتب من هَبَلٍ، والثاني هو بَيَّار الجنيُّ الذي كان قد أملى عليَّ رياحينَ الألم. حَدَّقَ الخليلُ في وجه بَيَّار، ثم قال له بلهجة فيها كثيرٌ من الغضب: "لم أَمْلَيْتَ على صاحبك أشعارا على الخبب؟ ألا تعلم أنه بحر غيرُ مألوف. وقد تجنبه الشعراءُ الفحول؟". رد بيار: "كيف؟ وَلِـمَ؟". رَدَّ الْخليلُ: "إنه البحر الوحيدُ الخالي من الأوتاد. كل البحور أسبابٌ وأوتادٌ. والسبَبُ والوَتِدُ هما عنصرا الإيقاع". رد بيار: "لكنَّ غياب الإيقاع لا يعني غيابَ الوزن. ذلك بأن حضورَ الوزن في النص يحقق جماله". رد الخليل: "هذا صحيح، لكن الخبب، رغم أنه يحقق الوزن في غياب الإيقاع، فإنه يدنو من النثر العادي. بخلاف بحور الشعر الأخرى التي لا إيقاع فيها على مستوى الإنجاز، فإنها تستدعي لغةً هي بالشعر ألصق. اِقرأ ما كُتب على الطويل، والمديد، والبسيط، والرَّمَل، والرجز، و...". ثم قاطعه بوقاش: "لِـمَ بعد البسيط لَمْ تذكر الكاملَ، والوافرَ؟". رَدَّ الخليلُ: "هذان البحران يقومان على الإيقاع، فهما وَتِدٌ وفَاصِلَةٌ. هذان العنصران يَظلان حاضرين بقوتهما كيفما كان الزحاف، بخلاف ما يجري في باقي البحور". فَرَدَّ بوقاش: "الحمد لله، لا أحتاج في الهبل الذي أَرُشُّه في صدر صاحبي إلى هذه السلاسل الجميلة". تدخل بيار قائلا: "أَعْرف بعض ما ذَكَرْتَ يا شيخَنا، ولكن ولدَ علي( يقصد الرَّبَّاوي)، غالبا ما يكون متوترا حين يستدعيني لِأُوَسْوِسَ له بالشعر. هذا التوترُ هو ما يجعلني أُسَرِّب إليه الخببَ؛ لأني أراه القادرَ على أن يستوعب هذا التوتر. ولهذا، حين تكون درجةُ توتره طبيعيةً، آتيه بالبحور العربية البدوية". لَمَّا سَمِع الخليلُ هذا الكلام من بَيّار قال بعد تفكير: "إذا كان كلامك صحيحا، فماذا تقول عن الجني الذي أَمْلى على أحمد بوزفور، في "نافذة من الداخل"، مقاطعَ خببية؟". رد بيار: "لقد أخبرني زَفْزَفَان..." قاطعه الخليل قائلا: "ومن زفزفان هذا؟". رد بيار: "إنه الجني الذي يسكن صدر بوزفور، فَيُملي عليه خَبَبَه". فقال الخليل: "وما ذا قال لك هذا الزفزفان؟". رد بيار: "قال: إن صاحبه لا يستدعيه إلا إذا كان متوترا. وهو دائم التوتر حتى إنَّ نثره يدخل في منطقة قريبة من منطقة الخبب....". رن الهاتفُ النقال في معطف الخليل. أخرجه. ضغط على OK بعد أن قرأ اسمَ المتَّصِل به. كان الحديث مع Pierre Guiraud، وهو باحث فرنسي في اللسانيات، وُلِدَ بمدينة صفاقس التونسية عامَ دخول فرنسا بلادَ المغرب. من خلال الحوار أدركتُ أن الرجل يسأل الخليلَ في مسائل عروضية قبل أن ينشر كتابه La Versification؛ لأن صاحب سلسلة Que sais-je طلبَ منه أن يَعْقد فصلا يقارن فيه العروضَ الفرنسيَّ بالعروض العربي. ويبدو، من خلال الحوار، أن صاحبنا الخليلَ أقنعه بضرورة التخلي عن هذا المبحث، مادام لا يحسن اللغة العربية. أغلق هاتفه. نَقَرَ نقرتين بأصبعه، فاختفي بيار، وبوقاش. التفتُّ إليه قائلا: "لِـمَ لَمْ تشجع هذا العالمَ على هذا العمل؟". رَدَّ: "أريدك أن تقوم به أنت"... كانت الشمس تنشر غلائلها في السماء. كان البحرُ يُرسل نحوي أمواجه. كان الخليلُ يمخر عبابه. كان الماء يبلل قدمي الحافيتين. صوت من بعيد يقول: خيرٌ وسلام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى