إبراهيم محمود - نحن الأدرينالينيون

سيكون مبعثاً للسخرية والتهكم من قبل رجالات الكيمياء، إن قلت إن الفارق بين الذين ينتمون إلى التاريخ باعتباهم منتجين، مبدعين ومفكرين، وممتلكي الجرأة في الكشف عن أخطائهم، والتعلم من أعدائهم، والذين يمارسون توقيفاً للتاريخ في بعض منه ويعمّمون على ما عداه، ويطلقون العنان لسلطة أسماء معينة ووريت الثرى منذ قرون طويلة، في الأدرينالين في نسبه إفرازاته، في ضوء الانفعالات التي يعيشها الجسم والأنشطة التي يقوم بها .
ذلك ما يسمح بنوع من التفاهم الحيوي- الكيماوي بين الإنسان وجسمه، وضبط العلاقات فيما يشبه الساعة البيولوجية، ومن شأنها فتح المجال لكل ما من شأنه الإبداع وبناء الأمثل .
يمكن لنا أن نتحدث عن أوجه العنف التي عاشتها البشرية، وكانت أوربا ذات باع طويل فيها، لكن ذلك لم يحل دون البحث عن المخارج التي تفيد في إنارة التاريخ، وتأكيد قيمة الإنسان، أي ما أبقى أوربا " الغرب " الساعية إلى تفعيل أثرها الاعتباري: قيماً وعراقة ذات وإبداع وفكر.
ذلك ما يسمح لنا بالمقارنة في ضوء الوضع الراهن، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية بين سعت إليه دول " الغرب " وما انتهجته الأنظمة في الشرق وطرق تعاملها مع شعوبها .
فتلك الإنجازات العلمية، ومن ثم الابتكارات العملية، فالنظريات الفلسفية والأدبية، والإبداع تلك التي عرِف بها الغرب، تفسَّر من خلال التوازن في وظيفة الأدرينالين، أي ما يخص الاقتصاد على مستوى التعاطي بين تلقي المؤثرات المختلفة وكيفية التجاوب معها، والسعي المستمر إلى إعادة النظر في كل سلوكيات مجتمعات التي تعنيه في الصميم، ليكون التاريخ تاريخه بجلاء.
انظروا ماذا جرى ويجري منذ مائة سنة، على الأقل، إلى يومنا في بلدان المشرق وفي محيطنا الجغرافي بالذات، حيث الكِيمياء: كَيْمياء، أي كَي الجسم من الخارج:
إن الوعي القطيعي الذي لم يتوقف عن توصيف شعوبها كدمغة بيولوجية جرّاء التحكم فيها، لا يعدو أن يكون تحويل مسار قواها الحية واختزالها في قوة واحدة إجمالاً: الشهوية أو الغضبية في الحد الأقصى من الاهتمام، الأمر الذي تنجم عنه نتائج تبقيه أكثر قابلية للقولبة، وإماتة تلك الروح التي تستغرق كامل قواها، وما يجعل الفارق كبيراً جداً في الحالتين، وما يترتب على كل ذلك من غياب أو تغييب العقل، حيث يبرز في الأفق السياسي المبتذل أشخاص محددون:
فالهيجانات التي تعصف بالشرق، لا تعدو أن تكون تعبيراً عن تلك القطيعية المنقادة بملايين البشر، وسلخ جلودها أو بتر أعضاء فاعلة فيها، أو إخصائها بما يضمن " حيونتها " بالطريقة التي تبقي أولئك الأشخاص المتحكمين بمصائرها إلى آجال غير مسماة.
والأفراح التي تعم البلاد وتساق أجساد الملايين تعبيراً عنها وبتوجيه سلطوي، تبعاً لمؤثرات تربوية، سلطوية، وعُرفية، هي ذاتها تترجم تلك النسخية التي تبقيها نظيرة السالفة عليها.
يمكن لنا أن نتحدث عن طبيعة الخطابات السياسية وربطها بمناسبات معلومة ليس للمعتبَرة جماهير حاشدة أو محتشدة أي رأي في إقرارها أو تحديدها لوناً وطعماً وصوتاً، وما يترتب على هذا التوليف/ التجيير من تعطيل غالب للسان، واقتصاره على تهجئة المحدود من الكلمات، واليد وقيامها بالمحدود من الأداءات، والأذهان وربطها بالمحدود من الاعتبارات الضامنة لأمنها المحروس سلطوياً، أي إبقاء الجماهير مملوكة من الخارج، وأرواحها ودائع سلطوية: دينية ودنيوية، وهما وجهان لعملة واحدة على صعيد الابتزاز الوجداني.
يمكن لنا أن نتحدث، وبدقة، عن خاصية الإبداع وطبيعة الأفكار المتداولة ضمن البازار الذي يحاط بأكثر من سياج دوغمائي، أبوي، واستعراضي، فيكون الغرب هو المرجع وهو مصب اللعنات في آن، وهذا يرتد بالمقابل إلى الموقع القيمي الضارب بعنفه للأنظمة التي تمارس سيطرتها الأفقية على كل منافذ الحياة ومداخلها في المجتمع، فلا يكون هناك مجتمع لعدم وجود مؤسسات، ولا مؤسسات، لعدم وجود قوانين ناظمة، ولا قوانين لعدم وجود أي عقد اجتماعي يشجّع على النظر فيه على أتم صلة بالمجتمع بالذات بصدد مسألة الحقوق والواجبات، ولا عقد اجتماعياً لأن الدولة بدورها تكاد تكون صورة كاريكاتيرية عما هو سياسي شائه، أي تفتقر كبناء تنظيمي إلى تلك المرتكزات التي تضفي عليها شرعية حضور وأهلية استمرار وتطور.
هذا التضييق القاعدي على كل مفاصل الحياة المادية والمعنوية، أحال البشر في مجملهم إلى أجسام مهيكلة، غريبة عن كينونتها، مغتربة عن حقيقتها، غائبة مغيبة عن الواقع، في إطار حس الاتصال بالمستجدات، فيما يشبه " مستوطنة العقاب" لكافكا، وفي وضع قدري مزكَّى .
مفجع هو وضع الإدرينالين الذي لا يستقر، ولا تفلح كل العلاجات في ضبط إقرازاته، لأن ليس من ضابط يُتكهَّن به سلطوياً، في " لوح السلطة المحفوظ "، وبناء على توجيه أحادي الجانب.
ربما في ضوء هذا المدوَّن أتَّهم بالتجني على هذه الشعوب، وأنا أشدد على أن الانفعالية التي تجلوها، وما ينتج عنها من ردات فعل عنيفة في الحياة والموت، في التمجيد والتحييد والتقزيم، وهي وجوه متقابلة، هي التي تشكل العلامة الفارقة لها، وليست أنظمتها في أشخاص ممثليها بمغايرين لها، لأن أدرينالهم يكون بالتوازي مع أدرينالينها، مع فارق التوظيف، هنا يكون المزيد من إحكام الطوق والانتشاء بالقهر الممارَس فيها، أي سادية متنامية ومتنوعة، وهناك، يكون المزيد من التطويع في " حظيرة " السلطة، وهي تقدَّم قرابين على مذبحها هنا وهناك .
ذلك ما يمكّننا في الحديث عن " دينونة العاطفة "أي ما يجعل العاطفة بوصلة هذه الجماهير المحكومة من الخارج، ولكنها العاطفة المجيَّشة في الداخل، فأن تكون مجيشة، يعني ذلك أنها عالة على العاطفة بالذات، كونها تشهد غياباً للوعي الفعلي، والجيَشان يصلها بالجيش، والجيش نفسه في وضعية حرب على نفسه وممتلَك من الخارج، حيث يتم تحويل المشاعر والأفكار صوب نفسها بالذات، وفي الوقت الذي يسهل التأكيد على طغيان الديني، والإفراط فيه، ورغم ذلك، تبرز معطَّلة جهة تأكيد مفهوم الدين الصحيح، فالله كاسم خاص، معطَّل المعنى، غير جار ٍ العمل به، فأن نسمع في كل جملة متفوَّه بها، وفي الأحاديث الخاصة والعامة ونقرأها على السيارات والجدران والكتب، وما أكثر القنوات الدينية التي تبث برامج دينية وقراءات قرآنية، مثلما أن ظاهرة انتشار سماع القرآن في الحافلات والسيارات وبصوت عال، تعبير آخر عن وثنية تتلبس هذه الجماهير، إذ إنها رغم هذا الحضور الساحق، لم تعرف الله بعد، وما نعاينه راهناً، هو وجود شعوب ملغومة من الداخل، وهي عند أقل فلتان أمني، تفتك ببعضها بعضاً، وتنتهك حرمات بعضها بعضاً، وتنهب بعضها بعضاً، والقسم بالله وأنبيائه ورسله وأوليائه جار دون انقطاع، فكيف يتم الربط بين هذه الحالات؟ كيف يمكن الوصل بين جماهير تعيش جمهرة جذبات، تسمع القرآن وهي تبكي، تسمعه وهي تصرخ: الله أكبر، وتجد في " بيت الله " متنفسها بهيئة وتخرج بهيئة، ولا تخفي فجورها ليلاً وشم البخور نهاراً، وكل ذلك يصلها بالتنويم الديني الطابع، وهو يترجم غياب الحس العاطفي الدقيق، جرّاء اختزال في تكوينها، حيث إن الوقف السياسي المكثَّف والموجه لا يدخر جهداً في إبقاء العاطفة المعلَّمة فاعلة رئيسة في توجهاتها، لتكون انفعالية وليست فاعلة، وهذا يظهر مدى استهلاك الأدرينالين وتداعياته الحيوية فيها.
لو روجعت شيفرة الأدرينالين مشرقاً ومغرباً، لاتضح الفارق الكبير. حاولوا ذلك قليلاً مع ضبط النفس، لئلا يسهم إفراز الأدرينالين في تسيير مظاهرة صاخبة ضد هذا " المشهّر " بالجاري !


إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى