نصيف الناصري - نار قرابينهم في صيف الفراشات

1

رغباتنا الراهنة بحاجة محمومة الى تثبيت التألقات الفريدة للرحمة الإلهية على الأشجار الهرمة والمريضة للعالم . ما هي أهدافنا في النهوض المؤلم صوب الفضائل المعرّية لأسرار وحدتنا في هذه البرية الغريبة ؟ ينبغي للانسان أن يطرد الألطاف النحيلة للسلوك الاجتماعي ، ويناجي النمور في صلاته بأنانية حادّة . نحن الآن بحاجة الى انتفاضة فريدة ضد وضعنا البشري وشروطه العجفاء . ينبغي أن نغيّر العادات والاعتقادات من أجل صيانة الزهرة الذهبية لكرامة موتنا . لا فرصة لنا في الخروج من هذا البؤس الذي ينضج في كل لحظة . عبرنا مرّات طويلة الحاجز الأخير للسأم ، وانزلقت حيواتنا في متاهة من المصائب والعلل . هل يظللّنا غفران الآلهة في تلاصقاتنا المحكمة والموصولة بالهاوية الممتدة عبر اللمعان الأزرق لفجرنا الأسيان ؟ في الظلمات المعادية لأشجار ضجرنا وتمايلاته الحادّة . في رطوبة العتبات المنهكة لأبواب نومنا الضنين . في الفضاء المسموم لصمت تنهداتنا وجذورها المتقطعة في الظلام . يحطم الأمل المرّ كل دفاعاتنا في الليالي المتهدمة ويطفىء الوشيعة الفقيرة لذكرى موتانا في الغبار وفي النحيب . في فراشات صرخاتنا الحمراء ، والسقوف الطويلة لسنبلة الحياة . نصعد مع نفائسنا الى الهاوية في ارتباك عظيم ، تاركين خلفنا عطونة أصداء وعيدنا لشمسنا المغبرة وشعلة الغريزة . يحتاج الوضع الانساني الآن ، اخلاصكِ أيتها الآلهة . يحتاج شرارة احسانكِ وحنان الرقاد . لماذا لا تستثير صلواتنا المرفرفة في الوحشة المضيّقة للنعمة ، البراكين العظيمة لعطفكِ ؟ يحمل الانسان في ليل الحيرة على كاهله وهو يرحل الى أرض العظام . خسته ونفاياته المصففة ، ولا ينال الرحمة المشجرة العتيقة للآلهة .

2

نجوم الصيف المعادية لضرائح حكمائنا المتحركة في الزمان ، وتسكعات الملاك الأسود ما بين الأفلاك وما بين المذنبات الميتة والحية ، وريبته المعهودة من العودة الى الأرض الشائخة ، والتماسكات المهتزة لهجرات طيور الغاق التي نلحظها في الاعياء الواضح لتعرجات الأنهار في الغروب . مرايا متقلبة لموتى بلادنا في الصقيع الحميم للمنافي . لا تحجبنا هذه التغريدات الرهيبة للطيور عن نور موتنا الشفيف ، ولا تجمّد خطواتنا شديدة اليقين في الوصول الى الهاوية ، الغضبات البغيضة لمصائرنا . تزلزلنا ذكرى من رحلوا في الأصائل العطرية والارشادات الضئيلة لهجرات الكواكب ، ولا اجوبة لدينا عن التكدرات الدائمة للمناخ في طوابع السنة ، ولا التوازنات السرية في الافصاح عن رغباتنا المحطمة . وحدها موسيقى نمش وجوه موتانا الأجلاء ، تشتعل برحمة عظيمة باتجاه الملصقات الكبيرة للفضاء الخارجي .

3

تلفحنا في تشعبات الألم نار الرغبة ونار الزوال ، وتركلنا التجلدات الضخمة لجدران الأحلام . لا لآلىء لنا في الممشى النحيل للفناء ، ولا شواهد صديقة في صحراء الفقدان . هل نحتاج الآن الى اصلاحات جديدة في ايماناتنا ؟ لا شيء يجمع بيننا وبينك يا انزياحات الأنهار ، ويا توترات الشواطىء في هجرات الرمال . تتمايل في كل لحظة أنفاسنا في الظلمة الشديدة للحيرة ، ولا دليل يحكم اغلاق الرتاج ، وتتشظى في الرنين العالي لوجوهنا فراشات الآمال ، ويمتنع النور عن الاجابات . نمشي تحت الشمس الحرّة في خنوع تام ، ويقلبنا البرد في ليل العزلة من دون شفاعة أكيدة . أغصان أيامنا القلقة مندحرة منذ الأزل في الهبوب الطويل لضجر الآلهة المحايدة ، والكلمة تصدح بألم في السفوح الزرق للفجر الوسنان . لماذا لا توسّع الأفعى فحيحها في التحطيمات العمياء لتعرجات الصيف ؟ في موت نبتة أو طائر أو انسان . تنفضح خديعتنا التي أورثتنا اياها أوهامنا الجليلة . لكننا في الارادة الموجهة الجسورة ، وميراثها المنقذ من صقيع الملائكة الذي أذعنت له المرايا في دوران الأجرام . نمشي تحت الشمس الحرّة في خنوع تام . لا صلاة لنا الآن إلاّ صلاة اللا كينونة ، ولا غفران لنا إلاّ غفران اللا دينونة .

4

تتعدد في ظلمة البؤس الانساني وفداحة تشظياته ، اخفاقاتنا المستمرة في الوصول الى القنديل الموصل صوب الحقل والباب . فرضياتنا الأساسية في الحب والموت ، استناداً الى خبراتنا العميقة في عداوة الأنهار وصياغة القوانين تحت أشجار اللبلاب ، هي الركائز المترسخة لحيرتنا وتلعثماتنا في الحاضر المتحقق وبذرته المتحفظة . المصابيح المسموعة لاحتضار الانسان المتمدد ما بين العدم وما بين الماهية ، والحشائش الغليظة لعطونة حياته في عسل الشمس ، وصمته غير القابل للترميمات وسط ظلال الزنبق في الصيف . تتابعات منظمة للّحظات الثابتة للزمان . بعيدة قناديل تيقظاتنا وصامتة ضربات أجنحتها . تخفت في عجز الوردة عن اعطاء أي معنى لأريجها الفقير . ايضاحاتنا المنهجية دائماً وترتيباتنا للأفكار ، وللتخفيف من شدة صدماتنا المستمرة في ليل العالم . تتجسّم صخرة سيزيف في كل حين ، وتعذبنا أحلامنا وشواطىء نجومها القاحلة . مستشفيات كثيرة تدوخنا مشياتها المتعرجة الطويلة فوق رماد أيامنا ، وتهدم صيدلياتها المفزعة أسرّتنا وآمالنا المصابة بالشلل . أشجار الحياة المحمّلة بصليل أسلحة مشحوذة . يعذبنا وميضها الأكثر عذوبة من القبلة في كل فصول السنة .

5

في انزياح العتمة عن الصلوات المتهجدة لطيورنا وادعاءتها الرنّانة في المنفى ، وفي الالتباسات المحيرة للمادة ورفرفاتها فوق القرابين الفقيرة لأنهار بلادنا ، وفي سطوع هاوية تعويلاتنا المتشككة على القوة العظيمة لنسمات وظلال الصيف الذي ادخرناه في الهاوية . نمزج العتمات والقبسات في الرياح القانصة مصائرنا وظلال الأحلام . تعلقاتنا الممتحنة في فراغ الضفاف المتهشمة ، وجسامة الأعباء المفروضة علينا في التخلص من الشهقات التي لا نطيقها . هما ما يحيران آمالنا اللامنتهية عند العتبة الأخيرة لضوء السنبلة . لا قدرة لنا الآن على الاندفاعات الفيّاضة ونحن نواجه اللحظات المترجرجة في عبورنا الأرض الى الحضور الأكثر تحققاً وصيرورة . نحن الآن بحاجة الى فضيلة اللاطمأنينة من أجل العبور الصلب لهذه المتاهة الطويلة . من أجل الكرامة الانسانية واشعاعاتها التي تدمرها البداهات الشيطانية للعادات والايمانات القديمة . من أجل أخوتنا للتراب والمطر والجبال المتعالية .

6

يبعثر ندى الأشجار في المساء ، الأسيجة العالية لأضرحة موتانا
وخطاطيف ممالك الشواطىء تعلق أقنعة حظوظها وأسلحتها في السقوف
المنطفئة لينابيعنا . عهودنا الموزونة مع آلهتنا ، دمرّت الرياح
نضارتها في الهبوب المدويّ للروائح العطنة لقرابين تحالفاتنا المتقلبة
ما بين الصيف وما بين القرميد الأسود لموتنا الأكثر انزلاقاً من ضوء
سنبلة . لا وعد ولا ميراث لنا إلاّ الحنوّ الدائم على بذرة تطوافاتنا
التي نحضنها احتضاننا لقرنفلة القانون في التعجبات المشؤومة لحلمنا
المنعطف في الظلمة الوثيرة للزمان وتماثيل فيروزه الضخمة .
يسطعُ ضوء الصخر في شفاهنا ، والذين نحبهم هلكوا ، وبرق الوحشة
يتعرجُ ويتفرع ويوسع لحيواتنا تفاهاتها .
المواثيق التي عقدناها في الماضي مع الأنهار ، ينبغي الآن أن نحلّها كلها .
ثمار أعيادنا وقناديل فجرنا عطشى ، وجذورنا تمددّت في صلابة الرماد .
هل لنا أن نصعد الذروات المحروسة لأحلامنا بثيابنا التي حفرتها مخالب السنوات ؟
نحرثُ في أرض محنتنا حقول الفحم المستنفدة ، من أجل العطور الميمونة للحظة
التلاشي . من أجل الصمغ الذي يهدم روابطنا مع الينابيع المفتوحة على اللذة
وحصانتها . يتنفسُ سهر الحجارة على الشواطىء المغمورة بنسيم صرخة الانسان
وتسحب العاصفة حظوتها ، وهي حظوة بجعاتنا المرصودات في العطية الكبيرة
للفضل الإلهي ، ومصائر قرابينا المقيّدة الى النعمة العظيمة وغليان اعتدالاتها .
تدل العقيق الأزرق للموت على حمحماتنا في ليل محنتنا . يكبلنا الأزل ويكبلنا
الأبد ، وفي المستنقعات الغريبة التي تضيّق عليها العصور . نترك الشعلة العملاقة
للروح على الحافة المتصدعة ، وتفنى الكينونة في التحالفات التراتبية للحظة العدم
المترصعة باضمحلال الأشياء . لاشيء يبقى لنا إلاّ صمت الظهيرة المتأرجح على
عذوبة سهادنا العتيق في الحديقة الفيحاء ، ونحول اللبلابة المتخفية والمغردة في
أرض خريف العالم .

7

كم يلزمني من الوقت للتخلص من الأشياء التي تهدد حياتي ؟ لا يقين عندي ولا أحلام ، ولا آمل في أيام جديدة أكثر لطفاً من حاضري الذي يسيجه الشظف والمعصية واللعنات . عبرتُ في شبابي حقول ألغام كثيرة ، وعشتُ حياتي كلها في قلب الفوضى ، وامتدت يدي الى ثمار أشجار غاطسة في الأعماق الخطرة لنهر المسيسيبي . أريدُ الآن أن أزيل عن عينيّ هذه العلامات الأكثر حموضة من عطر الصلاة . وعلى الرغم من انني الآن أعيش حياتي بصلابة المحارب ، لكنني أشعر أن آلاف الصخور قد سقطت فوق رأسي وتصدعت طرقي ، وحجارة ماضيّ المنتصبة تحت الشموس المتماثلة . هل لي أن أنجو بكينونتي من هذا اللاأمان المخزي والخدّاع المعلق في أغصان نومي الضئيل ؟ أود الآن أن أخرج من هذا الكوكب الشائخ وأقذف نفسي في اللاشيء وأصل الى الأعماق المتغطرسة لظلال اللاوجود . هل أنا ظل للثمرة المتعفنة لحركة التاريخ ؟ صاعقة . صاعقة أكثر رحمة من الشمس العليلة لحياتي المؤرقة .

8

لا شعلة ايمان عندي ولا يقين ، والصلاة الى فكرة مجهولة ، تزيدني يأساً واحتراقاً
أود أن أبكي الآن تحت هذه السماء المحترقة والمتصدعة والخالية من الآلهة والملائكة وقطرة المطر ، لكنني أعجز عن البكاء . احساساتي جافة ومتبلدة ، ونار نفسي مطفأة
وحدها الأشجار وطيور البطريق من يواسيني ويمنحني الاحسان الجليل والوثائق التي لا تدل الموت على طرقي . أنا الآن حرّ ، لكن حريتي ناقصة بسبب تفكيري في الثمار الناضجة في الفردوس . أحيا في معتقل تسيجه حماقات ضعفي الانساني ، وتسقط من بين يدي الثمرة . يحتاج ضميري المضبّب بالرماد الى نار أنفاس جديدة ، حتى لا تتجمد أيام حياتي في قبضة العقائد الفاسدة . هل بوسعي الآن أن أصلح ما افسدته في حياتي الماضية وأن أرفع جثتي عن التابوت ؟ ألسنة لهب كثيرة في أعماقي ، يمكنها أن تقشر روحي وجلدي وتنوّر الممشى الضيّق لحياتي . سأسلّم مصيري للهب الشمعة العميقة للوجود ، ولا أدع الملائكة تؤرجح صيف حياتي في الظلام .

9

في ضوء الزمردة العليلة الى الذكرى . في الانصات الطويل الى موعظة العطر تحت أشجار التفّاح . يطير نحل التهجدات في الهزّات الضخمة للّيالي الموحشة واللانهائية .
عشنا لهفة الحب في الماضي واكتشفنا النيران المتحفظة لشعائره . اكتشفنا الاشارات العنيفة والضرورية لحجارة موتنا المنتصبة ما بين اللحظة واللحظة . أشياء كثيرة يمكن تلمسها
وأشياء كثيرة يمكن تصديقها ، لكننا لا يمكن أن نتلمس القناديل الجليلة لقتلاكِ ، ولا أن نصدق شواطىء الخليقة المعلقة في أهدابكِ . أيّة زفرة تكتمين . أيتها الوردة الطموح ؟
تنهداتك أسيرة جمالك ، وحياتك معقودة في الهاوية التي يلتقي فيها عناق الذهب والغبار . شظايا أزمان ومصائر توارت في الشظف وذبلت فوق أعشاب الماضي .

10

تنقصنا نحن شعوب هذا الكوكب اليقظ والمحموم
الشجاعة والكرامة دائماً
وننسى أن أجمل العيش ، عيش التشاؤم والشقاء .
وحده المؤمن بفكرة تتعاقب في تفككها
ينام تحت الظلال العالية لأشجار ايمانه من دون هواجس أو كوابيس
وبعد موته يذهب الى فراديس وهمه .
تمرّ من أمامي في كل حين حشود ضخمة من البشر
بلا أهداف
بلا غايات
وأفكر، هل ستتحلل في النهاية عناصر الجنس البشري وتذوب
في أشياء الطبيعة ، أم انها ستذهب هباء في التراب اللامادي ؟
الخمرة روح العالم وفضيلته العنيفة التي لا تنسى في التماهي الجميل
للمطلق بينه وبين ضجر الانسان
لكن الافراط في تقديم القرابين لها. يورث الكآبة
وأفضل العيش ، عيش الكآبة .
بودلير
عمر الخيّام
جان دمّو
هؤلاء الأخوة الهداة الذين عاشوا الاختناقات العظيمة للوجود
هم الأدلاء الى النجوم التي تتعثر مساراتها في كل القرون .

11

تموت سنوات صيف الثمرة وتعود أكثر صفاء في طيرانها بين الأفنان المتثائبة لحياة الانسان . هل تجدي تراتيلنا نفعاً وسط هذه الشهقات العليلة لأشرعة النهار المقيّدة والطافية فوق مياه الصمت الممتدة باتجاه ذبول الأشياء ونظائرها المتعددة ؟ غرف أنثوية عميقة في الشجرة النقية للزمن ، تحجبنا عن رؤية الصلاه الخفيفة للفراشة في غابات الرغيف ، لكن النشوة الفاترة لحملقاتنا في الممرات العالية لما وراء الوجود . تصيبنا بالتشنج والانحلال ،
والانحرافات الغامضة لقناديل المطلق التي تسحبنا باتجاه الاشارات المتهدجة
للمادة . لا تعيننا على النهوض من رقادنا المنعطف بين الحشائش المتعففة في تلوناتها المزدوجة . في كل رابية ومنحدر لنا ريشة متثائبة ، وفي كل حقل وصخرة لنا نافذة نرنوا عبرها الى الاعصار الذي يحنو على حيواتنا عديمة الرائحة . ينبغي أن نضرم النار في الجرح ونرافق زيز الحصاد الى شعائره الخطرة . كل رعشة علامة صمت وكل ولادة تدفق حيّ لفقدانات جديدة . وحدها الظلمة العاشقة تعانق السنبلة والفضاءات المقفلة .

12

لا قرابة لي مع الغيوم وشفافياتها ولا صداقة ، ولا الفة لي مع التعاطفات الندية للغابة وأقمارها الضنينة . أضاعت جذرها حياتي في اليقظة المنتصبة للرماد الثقيل وانسدّت الذبذبات المتصدعة لأحلامي على الأشجان والحجارة المتضعضعة . أيامي المضمّدة تعرجات أنهار لموتى طويلة . تنام فيها الرموش المتهدلة والرغبات الذابلة العصية .
في الحضيض الذي ينسدل على أنقاض أغنيتي لا أملك ضفة ، ولا طلاوة ليل .
غبار حياتي الأسيرة يلفعني بروائح ذكريات من رحلوا من أحبائي ويهتز حاضري من صرير الى صرير . السياجات الباعثة على الغثيان تحجبني عن المشي في أرض الرغبة
وهذا النهر المتدفق في ملامساته لصحراء العالم . أكثر توهجاً منّي في تلاشي حلمي المحكوم عليه بالظلام .

13

لم تكن ذبائح . لا تقدمات حصاد . لا شفاعة ولا مغفرة بانتظارنا ، لكننا بعد أن انخسفت الأرض وتصدعت السماء . رفعنا زهرة صلواتنا الى فكرة ايماننا العظيمة. هل تستمر التحولات في الطبيعة الى ما لانهاية ؟ هل شرارة العالم دائمة التنفس الى الأبد ؟
هل يعود التحول الى ذاته أم يسير دائماً صوب الرابية المفتوحة للزمان ؟ هل تُضيء جذوة المعرفة في أرض وحدتها ، أم تركز رايتها في الظلمة العميقة للكائن وفي المبدأ العضوي للحياة ؟ تغيرات عظيمة في الشواطىء الملتهبة لليل والنهار ، والبحر هو الطينة التي انبثقت منها أغنية الانسان . ليست المعرفة الرغبة في اللذة والسطوة ، ولا السرور القليل الذي يضيء وحشة اللحظات . نشيد فنارات الريح ودفء الأقمار المنسدلة في ظهيرة الحِداد ، والزبرجد الأزلي في مياه العالم ، هو ما يظللُ الماهية الرخوة للانسان العاري الواقف في باب اللاوجود ، بانتظار قناديل حلم العودة المرصعة عيونها بعقيق المطلق .

14

في سنبلة نومي المتورمة وفي العثرات المتقلبة للطريق ومكان العمل ، وعلى الحافة الحادّة للهاوية . يلزمني الكثير من الحرص على ادامة النسمة الضجرة لحياتي . من الولادة الى النهاية ، يد الانسان المقطوعة، وحديقته التي بلا ثمار ، وأسراره المتطايرة عبر ممرات صقيع العالم . تلزمهُ أن يحافظ على اللحظة الحرجة التي يدشن فيها موته . انسان الفوضى والاندثار المستسلم للرماد ، والبروق المتضادة . انسان شقائق النعمان ، والدم في نسغ الوردة . من أجل أخوة الانسان . من أجل محبته . أتخلى عن كل محصول تثمرهُ نار حياتي
وآملُ الامداد الدائم للمعونة الى كل الجنس البشري . لا أود رؤية السأم والخوف في وجه الانسان ، ولا البرد في الجذور الضعيفة لشرارة حياته . أضحي بنفسي من أجل الانسان الوحيد في كهف أحزانه ، وأتخلى بلحظة جوهرية عن قنديلي الأخير لقلبه النبيل .
انسان المحبة
الانسان الجميل
انسان الطبيعة وشفرتها الأبدية في ازاحته والتضحية به .

15

أمطار عظيمة تحيطُ الأقاليم المتصدعة للأرض . من أجل الحرارة الهائلة للطوفان
من أجل العروق المجنحة لذهب أسرارنا ، والأقراص العالية لعسل الغفران الإلهي .
يا كلمة الرحمة المرجوة . كلمة المحار الذي يملأ شظف شواطئنا بالمعاطف والخبز
كلمة الفولاذ في أنهار تسبيحتنا الأخيرة في الصدوع العميقة لليل الايمان . صرخاتنا الايروسية لا معيار لايماضات نيرانها في عطش الخليقة ، وها اننا كلما نرمي حصاة في البحر . نسمع تأوهات اناث طيور القطرس ، ويستجوبنا النمر في الظلمة الغريبة للسجن
وتصعد الأنفاس في وميض المدخنة . الآن خمدت اللحظة المتوثبة لنضارة شعاع شموسنا
وثبّتت نفسها حجارة الجرح ، في الشواطىء الضارية لليل غربتنا .

16

لا هدنات ولا ظلال غفران في أبواب نومي المتجابهة الصرخات . أيّة أصياف حرّة أرخي أنفاس ثمراتها لتنزاح عن ظلامي طيور حياتي الهالكة ؟ في التجوالات الطويلة ذهاباً واياباً في هاوية العالم . رأيت ملوك الماضي المستسلمين للذّات اقتلاع صخور عروشهم الجرانيتية فتدثرت بأغطية ماضيّ البالية ، وصلّيت للعصف المدويّ في شواطىء الأنهار . ينسى الانسان العاشق مصيره عبر الابحار الدائم الى أرض ذاته . تحت نيران شجرة الايمان العالية . ابتنيت لي ريشة وعبدت في النوال المستحيل لحبي العاثر انخيدوانا الشفيعة . لا سنبلة رؤومة لي . لا بستان . لا شرارة جمال تعري ليل الصاعقة . في أعماق الانسان تصلصل الغضبات الطبيعية ولا يمكن للغيمة ترويض غطرساتها أو تعليمها ارادة الثمرة الطليقة . هنا عكاز السياب يرفرف فوق نجمته . عندليب الكلمة . داخل الكلمة نَمَت وسطعت شموس أوراد وأسلحة آلاف القرون ، ونوّرت مشاعل باتجاه الآفاق العتيقة للحقل والمحراث . في تبجحاتنا الكثيرة عن الشرف أو الحكمة أو العظمة . نجهد أن تكون أصواتنا حسّاسة وينبغي لها الانصات ، لكن نمال مصائرنا تهز في دبيبها العادات المكتوبة فوق قبورنا المفتوحة لهجرات الجراد . يتلمس الانسان في نضجه الشبحي ضوء الشمس وينبوع الأغنية ، وفي خضوعه الذليل لقوانين الآلهة . يحصل في مشيبه على حبل الشنق .

17

في سهر الانسان الطويل بين الثبات والتداخل في الطبيعة الأسيانة والمنغلقة على نفسها . في تملكاته الثنائية لبذرة الحب وديمومتها . في صيرورته دائمة العذوبة والجريان . تستمر التجددات الزمانية لسنبلة موته في الأريج العالي للتحطمات . هل توجد كسرة شمس بمعزل عن الحب ؟ في بحثه عن العلل الأولى لتقلبات قوانين العلم وفعالياتها ، وفي ادراكه العميق لمدلولات سهر الوردة وهي تضاعف النيران المزدوجة للأبدية . يسهر الانسان في حجارة خبزه مثل نحلة تقاتل بلا عسل . ضياء بروق القرون المتألق فوق رماد حيرته وخيباته ، يحطم كل الفعاليات الأساسية لطرائقه في الخلاص من الهاوية . التمزقات المظلمة لعطشه وانزلاقات أيامه العارية ، لا يخلصه منها إلاّ نور وملح الأغنية الغالبة والمغلوبة . آماله المحلولة والمنفرجة في الطوفان ، هي الضجة العذبة للنيران في تقدمها صوب التحنيطات المتكررة لفصول حياته الصدئة . هل هناك وسيلة مختارة لادراك وفهم الحيرة واللعثمات التي تملأ نسيم حياته ؟ يستغرق الانسان في وحشته التي تملأ الأشجار بالأبدية دائماً ، ويحطم في اهاناته المتعددة القيثارة التي تنسخ السنبلة .

18

تتبعثر ولا تنجو من ارتياد الظلمة المهتزة على الصخرة العالية للصيف . أغنية الانسان ، وتتهدم في كل حين أرض صوته المنسوجة من العطايا الشحيحة للآلهة . من الميلاد الى الموت . متاهة بائسة يتعثر فيها الجنس البشري وهو يتقدم باتجاه الشجرة المتعفنة لعظمته . الطوفانات المجلجلة لخيباته وهي تجرح مصائره ما بين الأروقة المستشيطة لعسله الذي بلا طعم ، ودواليب سهاده المشققة في دوراناتها الوئيدة تحت العواصف الجنائزية للعالم . توهجات عظيمة لسيف قانون يتحطم تحت صخرة الشمس . في عبورنا لظلال رموش الآلهة الأكثر ظلمة من غفران الأفاعي . نتعثر في حديقة الصيف الصافية بسجّادها الشبيه بصلاة اللاعدالة . شفاه صمتنا غير المعاقبة تدفعها خلجان أوهامنا صوب النضارة المتلألئة للنعمة الفقيرة للأحلام . وجروحنا المروية بنبيذ الموت وأرومته ، هي الاندفاعات القوية لليل ساعاتنا في التويجات الفردوسية لمحنة الملاك الناجي من الغرق . هل يوسع انتظارنا للموت ، عناقنا الطويل للأنهار الساهدة في قمح الكينونة ؟ شموس الفيروز على جبين الانسان ، وهو جبين الشجرة ، هي التوهجات التي تشطر صفاء النيزك في الوعد الهدّاف لنعيم احتضاره في الليالي المنمنمة . الضوء الانثوي للنيران الموشوشة يسطع فوق قرنفلة رأسه ، وفي الضفائر المتهدلة على الأعالي وفي الهاوية .

19

أتحدثُ عن شهقة الانسان في انقضاء لحظته . أتحدث عن البلبلة وأضحي بالأمل وظلاله المصطدمة والمرتجفة فوق الخواء الانساني . هل من لمسة احسان تعيننا على ما لايطاق في الظهيرة المرتخية لآلامنا ولا طمأنينتنا الدائمة . لماذا ينبض ضعف الانسان الوحيد تحت أحجار النسيم المحملة بالتغضنات ؟ موتنا المتغطي بممالح العافية الموشاة بصموغ الجزر الإلهية العذبة . يترنح مثل طائر الوقواق في تهجئته للكلمة ، كلما خمدت شرارة السنة . نجمة أسراركِ لا اللامعة ، تدفعني الى الاتحاد بصوتكِ ، وتضيع المفاتيح . في حديثنا العام الماضي ، تحت شجرة البرقوق الهرمة تحت أمطار الصيف ، عن الخلاص والغفران . قلتِ لي : { كل تقاويم العشاق الموتى أضاعتها رياح الحروب . لم يبق الآن إلاّ الأضحيات التي رفعناها الى آلهتنا الفقيرة } . هل ما زالت فضة وجهكِ المعذبة بالجمال ، تضيء حجارة قبور العشاق الذين لا يصلي لهم البحر ولا العاصفة ، وترسخ آمالهم العتيدة ؟ { لا أستطيعُ أن أعَلِّمكِ الصلاة بالألفاظ ولا أقدرُ أن أعَلِّمكِ صلاة البحار والأحراج والجبال ، بَيدَ أنَّكِ ، وأنتِ ابنة الجبال والأحراج والبحار . تستطيعين أن تجدي هذه الصلاة محفورة على صفحات قلبكِ } * . بلدان كثيرة كانت تتنفس عطور رحمة الانسان في الصيف الفائت . لماذا ترقد الآلهة تحت ظلال فناء الكائن الهش والعابر هذه المتاهة بسرعة ؟ يحلمُ المقدس في الخروج من قبر ألوهيته العتيق في ليل الانسان ويصالح الثمرة العاشقة ، عبر الحضورات المتلألئة للموت والميلاد في التعريات المتجددة للموسيقى في الأنهار . { الليل ينضج رعباً ، كما من قبل وقد وزعنا أفكارنا في الفلسفة وخططنا لأن نخضع العالم لقانون ، لكن ، ما نحنُ غير أبناء عرس تتقاتل في جحر } * فراشات قبر الانسان تلقي بمسودات هجراتها في النسمة المتألمة للقرون التي مضت ، وتضع الزهور فوق وجوهنا الرامبوية النعسانة . وحده في ضباب الأقمار المُحَوِّمة على جناحي الميت . يتحرك الصمت ويقص مطر الكلمة.

* من كتاب { النبي } لجبران خليل جبران

* من قصيدة 1919 لييتس

20

ينسدلُ الظل المتغضن لذكرى الذين رحلوا في صمت أعماقنا ، وتحجبُ عنا أبواب الغياب ، الينابيع المردومة لنومنا . لكن مراكب الصيف بحجارتها الحادة ، تتلوى مترهلة في احساساتنا المنوّمة . هل الضعف والضعة هما ما يجعلان الانسان . يلهث في أحلامه الملحية المهيّجة ، خلف الماوراء ؟ جيش من الإبر تمرّ كراديسه في أرض حياتي ، وما مِن قنديل يعينني على انارة المفتاح الأسود لمصيري . في مدن جرداء يتحطم فيها نيزك الفعل والكلمة . أضعتُ إلهي ونقيضه وأفرطت في التحالفات الصلبة مع الشرائع الجليلة للسنبلة وقلتُ للوردة : أنتِ مرفأ ألمي وظهيرة عوسج أيامي . لا الوهية تحت أهدابكِ ولا سهر للعظمة وتضوعاتها المرصودة في نسيم الفاجعة الأبدية ، ولا مجد للانسان الواقف تحت ليل أجنحة الفراشات المتصدعة في الرماد وانهياراته التي تغطي الشواطىء المنثنية للنجوم . البذرة المتنفسة للموت والمنعكسة على الاغماضة الرخوة للزمان تكبر وتتقدم في كل آنٍ صوب الفتحات الحرّة لمصائرنا العليلة . لماذا لا يتحركُ الهواء بين جدران أحلامنا المحمومة والمدوّية ؟ ولماذا لا تطن فيها اليعاسيب العتيقة ؟ نتوءات بعلو السهاد تصعد صوب وجوهنا وتهدم البراثن الخائرة لأحزاننا التي يرصعها المساء بولائمه الجنائزية . كيف لنا أن نحلّ اللغز المبعثر للثمرة الفظيعة للهاوية التي ستنجدنا وتنجد شقائنا في النسيم المتقوس والمحمول في الصخور الصلدة للأرض ؟ النداءات العالية التي تحيّي موتنا وتروّض تماثيل آلهتنا أضعناها في طريقنا الى الموت وفي الميزان الصافي في الطريق الى طروادة ، وقفنا وعرّتنا الشهادة المصفحة بالرأفة ، لكن ، لا الشرارة المتحفزة للوعد الإلهي ولا بروق التمزقات الكبيرة لعصرنا . تهدىء الخوف المتوالد دائماً في الفوران العظيم لأسرارنا.

21

ليست المقابر لأحد . تتلاشى الروح في ضفة مرآة تعانق الظلمة وشحنتها المحظورة
وتنغلق الأبواب الخاوية بعصف أسود على لفائف وصايا آبائنا . خشخشة أوراق تسقط من الأشجار في المنحدرات الشاطئية لسنواتنا المضطرمة التي عشناها بين الغلالات الشفّافة للألم الطويل . ينبغي أن نصعد الشعلة الصافية للتاريخ ونحمل قرابيننا الأكثر ترنحاً من التقديس الخائر لصلواتنا المروضة . وحدها الثمرة المتعفنة تنضج وتكلل بالرماد ميراث الانسان . ميراثنا الذي يحجّر دائماً لحظته المثقلة بطعم الزوال . هل لنا وفاق مع العفة المتأرجحة ما بين الطبيعة وما بين اللاوجود ، لزهرة الحلم ؟ لماذا لا يحصد الفجر في ارتواء حيواتنا المتململة . سنابل توحشاتنا الفولاذية في الأرض المنفتحة على العظام
والروائح الكريهة ؟ التنفسات في أسرتنا. نهر عتيق يسترجع نفسه ويسير بمحاذاة المسلات المحطمة للزمن . لا قرص العسل في الشجرة ينعطف على جروحنا ، ولا الومضة الرصينة في القيثارة . ينبغي لنا أن نتقدم في امتنان عظيم صوب الأريج المصفوف لموتنا ونفتح مزاميرنا المتلألئة على خلجان الأرض وعلى القناديل . لا أشرعة في اضمحلال لحظتنا الأسيرة في الملح ولا صمغ ، ولا علامات مقروءة تسهر في الجبين . أمضينا أزمان طويلة نتحرك على الحجارة الغريبة للشواطىء ، وتحالفنا مع هياكل الأمطار في الزرقة الملائكية للمراكب . الحاضر والمستقبل ينبوع احتضار طويل يقتلع الشرارة المرفرفة في مرايا حيواتنا ، ولا يقدم لنا إلاّ ثقل ضجرنا الذي يتعدد ويتمدد في اللهفة المدوخة لتحركاتنا وصرخاتنا المتلاشية . معصم صاعقة كبيرة يلّف مصائرنا منذ بدء الخليقة وما من محارات إلهية نعقدُ تحت ظلالها هدناتنا مع الكلمة ولآلىء غفراناتها المظلمة .

22

المصابيح ورائحة النجيل فوق ساعات قبورهم ذات الظلال المتذبذبة المحمومة . عطايا فقيرة تتجنب الظل اللزج لصلابة الايمان . كانت عطاياهم التي دفعوها للآلهة المتوترة ، عاطلة من كل نغمة وسلطان . انهم قتلانا المضيّق عليهم في كل الدروب والذين يسيرون بتثاقل في أحراش الماضي ، والذين أضاعت خواتيم أعمالهم مشاحنات الأدلاء في البرية ولم يبق لأحد منهم غصن عنب . قتلانا الأجلاّء ، في الغبار العاصف عند منتصف المسافة الى الأبدية وجدوا شجرة . في الشجرة حانة . لكن الخمر والماء لم يرّويا عطشهم للموت وللميلاد . أرض الصلوات المتخمرة التي شبكت أنهارها لنار قرابينهم في صيف الفراشات . فتحت عروقها المتضخمة لأشجار حيرتهم في صحراء النهار ، وخذلان قناديلهم لهم في حملاتهم ضد ملائكة الرقاد في الظلمة المتحركة للفراديس . مجاهداتهم المستمرة طوال الليل في سعيهم للوصول الى أبواب الفجر المتلهفة للانبثاقات والعناصر الجديدة التي يحملونها بدفء واحسان ، انحدرت مع ارادتهم صوب الرؤيا العميقة في اجتيازهم لرمال الرغبات ، من أجل التمثلات الحارة للادراك في أرضه النيزكية . كانوا في أشواقهم للمطلق وهو يتلألأ في تألقاته واشعاعاته العظيمة والرحيمة ما بين الحجارة وتنفساتها ، وفي ترفعاتهم البطولية التي اتسموا بها دائماً ، يدركون الطابع الزائل للأشياء في العالم ، لكنهم في ضوضاء الفجر المتخلية عن وظائفها للتعفنات . ذابوا في الصيرورة الأبدية للارادة في ألمها وفي حسرتها . أشجار الصفصاف تومىء دائماً لروابطهم ومواثيقهم معها في كل العصور .

التجمدات المتراصة لفراغ حيواتنا

تنظرُ أفعى الارادة الينا من خلال نافذة جحرها وتدعونا الى أن نتلمس رائحة أسماك موتنا ذات السهام المسننة ، لكننا غفونا على المرثاة الرطبة لتقدمنا في السن مع الشيوخ المنبطحين في أرض اللارغبة ، ورأينا الجثث الطافية للغيوم والطيور في سماء الأنهار .
هل تدفىء شجرة صنوبر النسيان التي تمدُّ أذرعها صوب الممالح العظيمة للهفاتنا ، الصرخات المرتجعة للغرقى في ساعات الفجر ؟ الآن - أضأنا مصابيح النعمة في لحظة الولادة ، وسلّطنا الصقور على التغضنات التي تبطىء حركة موتنا . لماذا لا تنسحب اللاطمأنينة مع النغمات التي تضمر نفسها في التجمدات المتراصة لفراغ حيواتنا ؟
هل نبقى نعجز دائماً في مأوى رغباتنا عن ترويض ارتجافة الخوف عند الطائر الوسنان في شجرة التفاح ؟

فردوس الفجر وينبوعه الذي يتسلق شجرة سهاد العاشق

قبركِ المستريح في سطوع العصمة . عسل البساتين وأفياء العقيق المنحنية على نيران السنوات التي قوستها العصور . قبركِ مرآة الكينونة . بذور الشمس وجسر الأبدية . قبركِ اللحظة المدوخة التي تنسابُ على ظهيرة الشواطئ ومتاهاتها المتعددة بين الصيرورة الناعسة للطبيعة . قرابيننا المترنحة التي يصقلها النوم في صلواتنا المتمددة اليكِ . أشجار كستناء تشحذُ ثمارها لإرساء العدالة بين فردوس الفجر وينبوعه الذي يتسلق شجرة سهاد العاشق . قبركِ ، انخيدوانا ، النهر الذي يغزلُ أسراره ويرفع القنديل . هل تسيل قطرات غيابكِ في الزمان أم تذوبُ في الديمومة ؟ هل يمحو ضوء عشقكِ في انعطافاته المزدوجة ، النجوم وغبطة النسيم ؟ انغلقت الهاوية عليّ وتشابهت النساء. تشابهت الأمطار فوق كتفي وترنحت قيثارات السنبلة والحديقة . صاعقتكِ المنعكسة، انخيدوانا، وسط أزهار الصمت ، هي العصارات المذهبة التي ترطب جذور حياتنا اسكبي نوركِ الوسنان عليّ . يتآزرُ فيّ الصمت والاهتزازات .


نصيف الناصري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى