جواد علي - الحمادون الثلاثة -2-

وروى الرواة قصة حماد التي ذكرناها بشكل آخر قابل للتصديق موافق للعقل، فلم تدخل إليها المبالغة على الطريقة التي رأيناها في قصته مع هشام وردت في كتاب (العقد الفريد) بهذه الصورة: جلس الوليد يوماً وجارية تغنيه، فأنشدت الوليد

قينة في يمينها إبريق.

فاستنشده حماد الرواية، فقال:

ثم نادى إلا اصبحوني فقامت ... قيْنَةٌ في يمينها إبريق

قدَّمته على عُقار كعين الديك صفى سلافه الراووق

حرة قبل مزجها فإذا ما ... مزجت لذ طعمها من يذوق

وهي نفس الحكاية كما رأيت غير أنها دون مبالغات ولا تهويل، كما أن الخليفة الذي حدثت معه هذه الحكاية هو الوليد وليس الخليفة هشام وهو أمر مقبول معقول يجوز صدوره من الوليد، ولم يذكر بهذه الرواية عن أمر استدعائه شيئاً.

وفي (الأغاني) قصة أخرى مصدرها (حماد) والخليفة صاحب القصة هو الوليد، وردت على هذه الصورة:

كتب الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر:

أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فسرح إلى حماداً الراوية على أحب دابة من دواب البريد وأعطه عشرة آلاف درهم يتهيأ بها.

قال فأناه الكتاب وأنا عنده فنبذه إلي، فقلت السمع والطاعة، فقال يا دكين، مر شجرة يعطيه عشرة آلا فدرهم، فأخذتها. فلما كان اليوم الذي أردت الخروج فيه أتيت يوسف بن عمر فقال يا حماد، أنا بالموضع الذي عرفته من أمير المؤمنين، ولست مستغنياً عن ثنائك. فقلت أصلح الله الأمير (أن العوان لا تعرف الخمرة) وسيبلغك قولي وثنائي. فخرجت حتى انتهيت إلى الوليد وهو بالبخراء، فاستأذنت عليه فأذن لي، فإذا هو على سرير ممهد، وعليه ثوبان أصفران: إزار ورداء يقيئان الزعفران قيئاً، وإذا عنده معبد ومالك بن أسمح وأبو السمح وأبو كامل مولاه، فتركني حتى سكن جأشي، ثم قال أنشدني: أمن المنون وريبها تتوجع ... فأنشدته حتى أتيت على آخرها

ولا تستبعد حكاية طلب الوليد لحماد فقد كان (حماد) من المقربين للوليد، وقال كان يقصده عند الحاجة فيحصل على هداياه ثم يرجع كما كان يجالسه ويدخل مجلسه. وكان الوليد يميل إلى الشعراء والأدباء وأهل الفن. ويجوز أن يكون فيما ذكره عن (يوسف بن عمر الثقفي) مبالغة إذ لم تكن صلاته بالوليد على الصورة التي ذكرها (حماد): كان على العكس مقرباً لديه طيلة مدة الحكم (الوليد) إلى أن قتل، فغضب عليه (يزيد) وعزله عن العراق ثم قتل بعد ذلك سنة 116 للهجرة.

كان حماد شيطاناً خبيثاً ماكراً يستطيع استخراج ما في القلوب. وكان يمضي وقته بالمداعبات والمهاترات وقول الشعر جاء في العقد الفريد: إنه كانت في أبي عطاء السندي لثغة قبيحة، فاجتمع يوماً في مجلس بالكوفة فيه حماد الرواية، وحماد عجرد، وحماد بن الزبرقان، وبكر بن مصعب، فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: ما بقى شيء إلا وقد تهيأ في مجلسنا هذا. فلو بعثنا إلى أبي عطاء السندي؛ فأرسلوا إليه فأقبل يقول مرهباً، مرهباً هياكم الله. وقد كان قال أحدهم: من يحتال لأبي عطاء حتى يقول جرادة، وزج، وشيطان؟ فقال حماد أنا، فقال يا أبا عطاء، كيف علمك باللغز؟ قال هسن، يريد حسن، فقال له.

فما صفراء تكني أم عوف ... كأن سويقتيها مِنجلان

قال زرادة؛ فقال أصبت، ثم قال:

أتعرف مسجداً لبني تميم ... فويق الميل دون بني أبان؟

قال في بني سيتان، فقال أصبت، ثم قال:

فما أسم حديدة في الرمح ترمي ... دوين الصدر ليست بالسنان

فقال زُزّ، فقال أصبت

وكان حماد كسائر أهل الكوفة يفضل (الأعشى) على شعراء الجاهلية. قال يحيى بن سليم الكاتب:

بعثني أبو جعفر أمير المؤمنين بالكوفة إلى حماد الراوية أسأله عن أشعر الشعراء، فأتيت باب حماد فاستأذنت وقلت: يا غلام! فأجابني إنسان من أقصى بيت في الدار فقال من أنت؟ فقلت يحيى ابن سليم رسول أمير المؤمنين. قال أدخل رحمك الله! فدخلت أتسمت الصوت حتى وقفت على باب البيت فإذا حماد عريان على فرجه دستجه شاهسفرم، فقلت إن أمير المؤمنين يسألك عن أشعر الناس، فقال نعم، ذلك الأعشى صناجها.

وهذه القصة على ما يخيل إلي هي من وضع رواة الكوفة الذين كانوا يتعصبون للأعشى على سائر الشعراء ويقدمونه على الجميع؛ وإلا فقد كان بوسع الخليفة استدعاء الرواية إليه واستطلاع رأيه وأخذ الدليل. وكان أهل الكوفة يتعصبون للأعشى نكاية بالبصريين الذين كانوا يتعصبون لامرئ القيس.

والظاهر أن العباسيين لم يكونوا يعطفون عليه حتى ولا أعوانهم مثل أبي مسلم الخراساني، بل كان الرواية يخاف منهم ويبتعد عنهم كلما استطاع ذلك. كالذي جاء في حديث حماد عن استدعاء أبي مسلم الخراساني له حيث يقول: أرسل إلي أبو مسلم ليلاً، فراعني ذلك، فلبست أكفاني ومضيت، فلما دخلت عليه تركني حتى سكن جأشي، ثم قال لي ما شعر فيه أوتاد؟ قلت من قائله أصلح الله الأمير؟ قال لا أدري. قال فأطرقت حيناً أفكر فيه حتى بدر إلي وهمي شعر الأفوه الأزدري حيث يقول:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهاً لهم سادوا

والبيت لا يبتني إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتادُ

فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا

فقلت هو قول الأفوه الأزدري أصلح الله الأمير، وأنشدته الأبيات، فقال صدقت، انصرف إذ شئت! فقمت، فلما خطوت الباب لحقني أعوان له ومعهم بدرة فصحبوني إلى الباب، فلما أردت أن أقبضها منهم قالوا لا بد من إدخالها إلى موضع منامك فدخلوا معي، فعرضت أن أعطيهم منها شيئاً فقالوا لا نقدم على الأمير. ثم من يدري فلعل الخوف هو الذي أوحى إلى حماد الراوية بهذا الشعر الذي لا يمكن نظمه إلا من رجل حضري على طراز حماد، أو لعل القصة موضوعة من أساسها أن أردنا أن نذهب مذهب الشك في أكثر أقوال حماد.

والظاهر أن إعراض العباسيين عن (حماد) الذي كان يلتجئ إلى الأمويين هو الذي حمله على مغادرة (بغداد) في أيام المنصور بعد أن وفد إليها يلتمس الرزق في قصور خلفاء بني العباس. والظاهر أن الحظ كان قد ابتعد عنه وظل يبتعد عنه ولا سيما في أيام المهدي عدو الزنادقة اللدود. وكان حظ أكثرهم مثل حظ حماد. ويقال إنه سافر بعد ذلك من الكوفة إلى البصرة حيث كانت له هنالك عصابة ثم عاد بعدئذ إلى بغداد. ولكنه وجد إعراضاً من المهدي ومطاردة فاضطر إلى مغادرة العاصمة إلى أن توفي عام 155 أو 156 أو 158 للهجرة.

مسكين حماد! كلن شاعراً مجيداً من الشعراء المجيدين. وكان ذكياً شاطراً ما في ذلك شك، وكان حافظاً ما في ذلك شك أيضاً؛ غير أنه لم يستغل ذكاءه ولم يستعمل مواهبه في قول الشعر فكان كصاحبه خلف الأحمر ينظم باسم الغير، ويقول الشعر ثم ينسبه إلى القدماء. ولعله كان يجد في ذلك رواجاً أكثر من رواج النظم المنسوب إلى نفسه، وهو رجل يريد أن يعيش كثير من أترابه الشعراء على حساب شعرهم!

لقد كان خلف الأحمر أحسن منه حظاً ولا شك، فقد حفظ الرواة عنه ما لم يحفظوه عن حماد، وذكروا عنه ما لم يذكروه عن زميله حماد. ولم نجد في الكتب من أخبار حماد غير اليسير مع كل المبالغات التي رويت عن محفوظه من الشعر، لقد ذهبت معه إلى القبر فقبرت معه إلى أبد الآبين.

والعادة كما يقول العوام أن تطول رجل الإنسان بعد الموت؛ غير أن رجل حماد ظلت قصيرة، فلم يتبار الناس في رثائه، ولم يعبأ إخوانه على ما يظهر لوفاته، إنهم لا يقيمون وزناً إلا للأحياء؛ أما الأموات فإلى أناس آخرين، فلم يرد مما قيل في رثائه غير ما رثاه به عبد الأعلى بن عبد الله بن خليفة أبو يحيى محمد بن كناسة بقوله:

لو كان ينجي من الردى حذر ... نجاك مما أصابك الحذر

يرحمك الله من أخي ثقة ... لم يك في صفو ودّه كدر

فهكذا يفسد الزمان ويفني العلم فيه ويدرس الأثر.

وحماد هو الذي جمع السبع الطوال فيما ذكره أبو جعفر النحاس والتي يقال لها (المعلقات السبع). جمعها من قصائد كثيرة واختارها من بين الشعر الجاهلي اختياراً، والتي قيل عنا إنها كانت قد كتبت بالذهب وعلقت بالكعبة. والتي شرحها جماعة من الشراح. والتي جاء عنها في (جمهرة أشعار العرب).

(وقال المفضل القول عندنا ما قاله أبو عبيدة في ترتيب طبقاتهم وهو أن أول طبقاتهم أصحاب السبع معلقات وهم أمرؤ القيس وزهير النابغة والأعشى ولبيد وعمرو بن كلثوم وطرفه ابن العبد. قال المفضل هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب بالسموط ومن زعم غير ذلك فقد خالف جمهور العلماء. .) وقد أورد أبو زيد محمد القرشي أسماء الطبقات الأخرى مثل المجمهرات والمذهبات. . الخ.

ويرى المستشرق (نولدكه) أن اسم (السموط) هو الذي أوحى إلى مخيلة الرواة بوضع تلك القصص من المعلقات السبع وعن تعليقها في جوف الكعبة دون دليل قائم ولا حجة مقنعة، ومع أن رواة السيرة والمغازي لم يذكروا عند بحثهم فتح مكة من أمر هذه المعلقات شيئاً كما أن الحديث النبوي لم يتعرض لها. وهذا ما يجعلنا نشك في صحة ما ورد من روايات.

الدكتور جواد علي



مجلة الرسالة - العدد 767
بتاريخ: 15 - 03 - 1948

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى