محمد فري - الكاتب النحرير

يعرفه أغلب القراء، فهو الكاتب النحرير، صاحب القلم الخطير، يكتب في كل شيء، في القصة والشعر والنقد، قصاص وشاعر وناقد، موسوعة متحركة، شجرة عجيبة أثقلتها مختلف الثمار، ما أن تهب عليها الريح وتحرك أغصانها حتى يتساقط منها محصول وفير، ومحصوله ما ينتجه من كلام، كلام غزير ووفير، يودعه مختلف الصحف والمجلات، والمواقع الرقمية والمنتديات، حتى لقبه البعض بصاحب اللسان المتعدد الطلقات، وتمادى بعض الخبثاء فاعتبروا كتابته إسهالا لا ينقطع، وكلامه نهرا جاريا لا منبع له ولا مصب.والحقيقة أن كتابته من النوع الذي يمكن اعتباره دائريا، لا تعرف بدايتها من نهايتها، تتعدد مواضيعها، وتتناول كل شيء، يتحدث في الأدب والسياسة والاقتصاد، ولا بأس أن يتناول أحيانا ما يتعلق بقضايا العلم والاختراع، بل يتجاوز ذلك فيبحث في الغيبيات والشعوذة والسحر... جميع المواضيع مفتوحة أمامه، وحتى إذا صدت أبوابها، فبالإمكان النفاذ إليها من النوافذ،فيسبر أغوارها، ويكشف أسرارها.أما أفضل أوقاته، فتلك التي يجلس فيها أمام مكروفون الإذاعة، أو كاميرا التلفزة، حيث يرتدي أبهى ملابسه، ويعتدل في جلسته ليطلق العنان للسانه ، ويفتح باب الإسهال الكلامي، وغالبا ما يتعب معه المذيع صاحب البرنامج، بسبب جريه وراءه في محاولة مستمرة لرده إلى جادة الطريق.الكل يعرف خطورته الكلامية، ولا أحد يجازف بنفسه فيناقشه أو يجادله، لأنه كالماء يتسرب من الأصابع، كلما أغلق عليه باب فتح بابا آخر يسيل منه كلامه، خصوصا وأن له تجربة كبيرة في مجال الخطب الرنانة التي تستعيها المناسبات، وما أكثر المناسبات التي ينحشر فيها، يقرع البيان بالبيان، والحجة بالحجة، ولايهم إن كان يؤمن بالفكرة، فالغاية هي الاستحواذ على السامع، وإقفال الأبواب على الخصم.ولم ينس وهو الأديب المتعدد الوجوه، أن ينحشر مع الكتاب في نقاباتهم و مؤسساتهم، ويتخذ مكانه في صدارتهم، فخاض معهم المعارك، وشاركهم الصراعات والملاسنات، والتي اعتبرها الظرفاء حروب ديكة، يتعالى فيها الصياح، ويتناثر فيها الريش بمختلف أشكاله وألوانه. هو يعرف ما يقوله عنه خصومه، ويستوعب جيدا ما يلمحون به، لكن ذلك لا يهمه، فهم أناس غيورون ينهشهم الحقد والحسد، ومكانته الأدبية يحسد عليها فعلا، فعلى الأقل شارك في مؤتمرات عديدة، وجاب أقطارا كثيرة، مثل فيها الأدب والأدباء، وتحدث بلسان حالهم في غيابهم، وتمتع بالولائم الشهية، وغرف الفنادق البهية، ذات الأفرشة الوثيرة، والتجهيزات المريحة الوفيرة، والبركة في كل ذلك للسانه اللولبي الذي يغرف من بحر لا تكدره الدلاء.ما أحلى الجلوس إذن في ردهات المؤتمرات بالفنادق الفاخرة، يتبادل الحديث مع الجميع، وفي نفس الوقت يتبادل كؤوسا متعددة، امتلأت بسوائل مختلفة المذاق، متعددة الألوان، تعقبها أطباق صفت عليها أشهى الأطعمة، وأطيب الأكل وألذه، يختار منها ما يمتع البصر والبطن، فها هي اللحوم طرية، والخضر بهية، والفواكه الندية، والحلويات ذات أشكال وألوان، وما عليه إلا أن يمد يده وسط الطابور، فيقتني ما يقتني ليضعه في طبقه، ولا بأس إن أضاف كمية أكثر مما تتطلبه بطنه، فالعين تشتهي أيضا، ولها أحكامها الخاصة.متعة نالها إذن في جولات عديدة، وعواصم مختلفة، والبركة في اتحاد الكتاب ، ومؤتمراته الخصبة، ولم يخسر إلا كلمات يلقيها هنا وهناك، فيصفق الحاضرون، وعلى الدنيا السلام.ما أحسن إطلاق العنان للسان، في منبر جميل الشكل، وقاعة شاسعة الأرجاء، مكيفة الهواء، تناثر فيها حضور استعد للمناسبة، وتهيأ للهتاف الذي يخفي بعض الأصوات المشاكسة الحقودة.. خصوصا في المناسبات التي تستدعي تغيير اللجان، وتبديل الأعضاء، فللطبخات هنا دورها الكبير، وهو من هواة الطبخ، وله فيه شهادات كثيرة، دعمها كثير من أمثاله الطباخين.. وعلى ذكر الطبخ، فإن أحسن الأوقات لديه هي عندما يفيض لسانه بخطبة رنانة، ومعدته مليئة بكوكتيل من الطعام، فينطلق إسهال الكلام، في هجوم كاسح، وتعبير جارح، والويل لمن يعترض الطريق، وكأن لسانه يستمد قوته من ضخامة بطنه، فيختلط الحابل بالنابل، وقديما قيل " البطنة تذهب الفطنة ".غير أن الإسهال الكلامي هذه المرة ، واجهه إسهال من نوع آخر لم يكن يتوقعه، فما أن اعتلى الكاتب النحرير، صهوة المنبر الوثير، وأطلق للسانه العنان، حتى أحس بأصوات تتصارع في بطنه، فاختلط صوت اللسان مع صوت المعدة، وسرعان ما أحس بوجع يتجول بأمعائه، ينذره بخروج ما يجب أن يخرج دون تأخير أو تماطل، وأيقن أنه الإسهال اللعين، وهو الحقيقي هذه المرة، فحاول التحكم في الأمر، وجرب أن يتماسك، لكن هيهات، فالمسألة فوق المستطاع، وتبا للإسهال الكلامي أمام إسهال المعدة، فلم يملك إلا أن ينزل من المنبر، ويتجه مسرعا نحو المرحاض، وأوراق الخطبة بيده، علها تساعده في هذا الظرف الحرج.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى