فكري داود - دَهْسُ الطِّين */2

2- أقدَامٌ نَحِيلَةٌ شَائِهَةٌ


ها هي الأقدام النحيلة لصغار بني الإنسان، تغوص ـ حتى الركب ـ وسط أقراص الطين العملاقة، توقف الاعتماد ـ منذ فترة ـ على الخيول، ليس من سبب واضح لذلك، سوي التكلفة ربما.
ومَن غيرُه بديلا يكون؟
ذلك الإنسان، الموضوعةٌ كَفُّه فوق خَدِّه، في انتظار الفرصة؛ ليستولى على بعض أشغال بني الحيوان، يظن نفسه يغتنمها ـ الفرصة ـ، لا تتنبه حواسَُه، لاغتنامها هي له، إلاَّ بعد انتهاء الجدوى!
تنتهي عادة خدمةُ الحصان، برصاصة في الرأس، تُرى بأيَّةِ رصاصة، تتعلق
تلك المصائر الصغيرة؟
مُلتصقٌ وجهي، بزجاج السيارة، من قريتي، التي تحتل بقعة، من شاطئ النيل،
إلى المدينة ـ محل العمل ـ، أدمنَتْ عيناي الحملقةَ، تعيد قراءة كل ما يقع، في برواز النظر:
البرسيم اليابس الهزيل, القنوات الظمأى للماء, أشجار الكافور المصفوفة العجوز,
راكبي الدراجات, والسيارات النصف نقل, والحمير, والمترجلين إلى الحقول وإلى المدارس، و...
يبدو كلُّ شيء مفهوما ـ أول الأمر ـ, كما لو كان كتابا، أقرؤه للمرة الألف.
عند اللوحة الأثيرة ـ لأطفال الطين ـ تُعيد حواسِّي القراءةَ, تبـدو (شخابيطها) كلوحة (سريالية)، عويصة الفهم، إلاَّ لذوى الأفهام ـ والذي لَسْتُ منهم على ما يبدو ـ
؛ تتراصُّ أبدانُهم الصغيرة، كعربات قطار بطئ, عليل, ينتـقل خَطْوهم كليلاً، فوق دوائر كبيرة من الوحل, أسْمالُهم البالية مُشَمَّرَةٌ, ترتبك فوقها، الخطوط الباهتة, والورود الذابلة، ناشعة العرق, تدور بهم أرجلهم، كما تدور الرحى، وصَرخةُ (الملاحظ) المُحَذِّرة، سَيفٌ على الرقاب، ترتفع عيونُهم المغرورقة، عن الطين, تصطدم بشاربه الغليظ، وسِحْنته المرعبة, والسوط الطويل، في يده.
تتسحب نظراتي ـ عبر زجاج السيارة ـ,تحط عند سيقانهم، النحيلة العارية, إلاَّ من طبقة الوحل, يمس صدري مَسَّاً كهربياً, تمتد أيديهم بأطراف أكمامهم، تمسح جباههم وأنوفهم.
...
فاجأني صوتُ جارى ـ الذي أدْهَشتنِي متابعتُه ـ، قال:
هذه أول خطوة، في صناعة الطوب.
قلت ـ لا إرادياً ـ:
ولكن الصغار...
قاطعني تساؤله :
ما لهم الصغار؟!
...
في الفراغات الكائنة، بين أقراص الطين, على طول الطريق, تبقى أعداد كبيرة، رَهْنَ الانتظار, مُسَلَّطَةٌ عيونُهم على الحركة، فوق الأقراص.
وفيما بدا مفاجئا، انكفَأ أحَدُ الدائرين على وجهه, أطْلقَتْ ـ عندها ـ، حناجرُ المنتظرين، تهليلةً صاخبة,احتلت رأسي الدهشةُ لذلك التهليل.
قال الجار:
لِمَ الدهشة؟!
...
سيحل أحداهم محلَّه، ويأخذ أجره.
قلت:
أليس الأجرُ لِكلِّ الـ ...؟
قاطعني:
الأجر لمن يدور فقط.
...
استحضرَتْ آذاني، صوتَ جدي مُحَذِّراً ـ ذات يوم ـ، من لَمْسِ أصابعي، لبراعم اللبلاب النابت, صاح :
اللمس يوقف النمو يا ولد.
أوشكت الخواطر، أن تتداعى على رأسي ...
نبهتْني حلقةُ المنتظرين، التي انضربَتْ حول الملاحظ سريعاً, تفقدَتْ يدُه أبدانَهم, ثم دفعت بأعلاهم كتفا،ً داخل الوحل.
كرَّرَ لساني ـ لا إراديا ـ كلماتِ الجد:
اللمس يوقف النمو ...
رَمَتْ عيناي نظرةً جديدةٌ, أحَاطَتْ بتلك القطعان المُوحلة، من الصغار, وتردَّدَ بداخلي تساؤلٌ غامض:
تُرى هل يدركهم النمو؟!


***


* القصة من مجموعة قصصية للكاتب، تحمل نفس العنوان:(دَهْسُ الطِّين).




فكري داود

تعليقات

دَهْسُ الطِّين */2

أقدَامٌ نَحِيلَةٌ شَائِهَةٌ


ها هي الأقدام النحيلة لصغار بني الإنسان، تغوص ـ حتى الركب ـ وسط أقراص الطين العملاقة، توقف الاعتماد ـ منذ فترة ـ على الخيول، ليس من سبب واضح لذلك، سوي التكلفة ربما.
ومَن غيرُه بديلا يكون؟
ذلك الإنسان، الموضوعةٌ كَفُّه فوق خَدِّه، في انتظار الفرصة؛ ليستولى على بعض أشغال بني الحيوان، يظن نفسه يغتنمها ـ الفرصة ـ، لا تتنبه حواسَُه، لاغتنامها هي له، إلاَّ بعد انتهاء الجدوى!
تنتهي عادة خدمةُ الحصان، برصاصة في الرأس، تُرى بأيَّةِ رصاصة، تتعلق
تلك المصائر الصغيرة؟
مُلتصقٌ وجهي، بزجاج السيارة، من قريتي، التي تحتل بقعة، من شاطئ النيل،
إلى المدينة ـ محل العمل ـ، أدمنَتْ عيناي الحملقةَ، تعيد قراءة كل ما يقع، في برواز النظر:
البرسيم اليابس الهزيل, القنوات الظمأى للماء, أشجار الكافور المصفوفة العجوز,
راكبي الدراجات, والسيارات النصف نقل, والحمير, والمترجلين إلى الحقول وإلى المدارس، و...
يبدو كلُّ شيء مفهوما ـ أول الأمر ـ, كما لو كان كتابا، أقرؤه للمرة الألف.
عند اللوحة الأثيرة ـ لأطفال الطين ـ تُعيد حواسِّي القراءةَ, تبـدو (شخابيطها) كلوحة (سريالية)، عويصة الفهم، إلاَّ لذوى الأفهام ـ والذي لَسْتُ منهم على ما يبدو ـ
؛ تتراصُّ أبدانُهم الصغيرة، كعربات قطار بطئ, عليل, ينتـقل خَطْوهم كليلاً، فوق دوائر كبيرة من الوحل, أسْمالُهم البالية مُشَمَّرَةٌ, ترتبك فوقها، الخطوط الباهتة, والورود الذابلة، ناشعة العرق, تدور بهم أرجلهم، كما تدور الرحى، وصَرخةُ (الملاحظ) المُحَذِّرة، سَيفٌ على الرقاب، ترتفع عيونُهم المغرورقة، عن الطين, تصطدم بشاربه الغليظ، وسِحْنته المرعبة, والسوط الطويل، في يده.
تتسحب نظراتي ـ عبر زجاج السيارة ـ,تحط عند سيقانهم، النحيلة العارية, إلاَّ من طبقة الوحل, يمس صدري مَسَّاً كهربياً, تمتد أيديهم بأطراف أكمامهم، تمسح جباههم وأنوفهم.
...
فاجأني صوتُ جارى ـ الذي أدْهَشتنِي متابعتُه ـ، قال:
هذه أول خطوة، في صناعة الطوب.
قلت ـ لا إرادياً ـ:
ولكن الصغار...
قاطعني تساؤله :
ما لهم الصغار؟!
...
في الفراغات الكائنة، بين أقراص الطين, على طول الطريق, تبقى أعداد كبيرة، رَهْنَ الانتظار, مُسَلَّطَةٌ عيونُهم على الحركة، فوق الأقراص.
وفيما بدا مفاجئا، انكفَأ أحَدُ الدائرين على وجهه, أطْلقَتْ ـ عندها ـ، حناجرُ المنتظرين، تهليلةً صاخبة,احتلت رأسي الدهشةُ لذلك التهليل.
قال الجار:
لِمَ الدهشة؟!
...
سيحل أحداهم محلَّه، ويأخذ أجره.
قلت:
أليس الأجرُ لِكلِّ الـ ...؟
قاطعني:
الأجر لمن يدور فقط.
...
استحضرَتْ آذاني، صوتَ جدي مُحَذِّراً ـ ذات يوم ـ، من لَمْسِ أصابعي، لبراعم اللبلاب النابت, صاح :
اللمس يوقف النمو يا ولد. مشاهدة المرفق 5265

أوشكت الخواطر، أن تتداعى على رأسي ...
نبهتْني حلقةُ المنتظرين، التي انضربَتْ حول الملاحظ سريعاً, تفقدَتْ يدُه أبدانَهم, ثم دفعت بأعلاهم كتفا،ً داخل الوحل.
كرَّرَ لساني ـ لا إراديا ـ كلماتِ الجد:
اللمس يوقف النمو ...
رَمَتْ عيناي نظرةً جديدةٌ, أحَاطَتْ بتلك القطعان المُوحلة، من الصغار, وتردَّدَ بداخلي تساؤلٌ غامض:
تُرى هل يدركهم النمو؟!
***
*القصة من مجموعة قصصية للكاتب، تحمل نفس العنوان:(دَهْسُ الطِّين).
 
أعلى