جواد علي - الحمادون الثلاثة - 3 -

وننتقل بك أيها القارئ من حياة حماد الراوية وقد سقت لك بعض أخباره إلى حياة حماد آخر هو (حماد عجرد) وهو يفوق المرحوم صاحبنا عبثاً وزندقة، ولست أقصد من وراء هذا الحديث رواية أخبار الزنادقة، وإحياء ذكرى الزندقة، وفي عصرنا من يفوق من ذكرنا عبثاً واستهتاراً وزندقة وتفاخراً بالخروج على أنظمة البلد والمجتمع. ولكننا نقصد من وراء هذه الدراسة إظهار صورة من صور حياة الناس في ذلك العهد غامضة على كثير من القراء، ترينا لوناً من ألوان الحياة وفوضوية من تلك الفوضويات التي قوضت دعائم المجتمع العربي القديم.

وحماد عجرد الذي أريد أن أتحدث عنه هو أبو عمرو وقيل أبو يحيى حماد بن عمر بن يونس بن كليب الكوفي وقيل الواسطي. وبعد فلا تغرنك هذه الأسماء وهذا النسب الطويل العريض وتلك النسبة العربية التي تتحدث في الظاهر عن عربية أصيلة وفي الواقع غير ذلك. ولست بمبيح لك سراً إن قلت لك أن الرجل كصاحبه مولى من موالي سواءة بن عامر ابن صعصعة. شأن أكثر العابثين والمجان الذين ظهروا في هذا الوقت خاصة وقت تدهور السياسة العربية وتولي الملوك المترفين من بني أمية مقاليد الحكم في الإسلام. وفي بلد وإن كانت العروبة غالبة عليه غير أن العجمة كانت تبذر مفاسدها فيه وتؤسس نواديها في كل مكان.

لقد كان حماد عجرد على الرغم مما أتهم به من الزندقة سليط اللسان بذئ الكلام لا يقف أمامه في هذا الفن أحد. وقد عرف بشار بن برد وهو من المتهمين بالزندقة كذلك بأنه من أبذأ الناس لساناً وأنه من الهجائين والمقذعين في هجائهم. وكان مسرفاً في الهجاء حتى عجل بنهاية نفسه. ومع هذا الهجاء لم يتمكن من التغلب على حماد ولا من إسكاته وقطع انفاسه فكانت بينهما أهلج شديدة وكانت بينهما سباب وشتائم فقال حماد في بشار أهاج فاحشة جاء فيها بمعان غريبة وإقذاع فاقت حد الوصف حتى كان بشار يضج منه.

روى الصباح الكوفي قال دخلت على بشار بالبصرة فقال لي: يا أبا علي، أما أني ق أوجعت صاحبكم وبلغت منه، يعني حماد عجرد. فقلت بماذا يا أبا معاذ؟ فقال بقولي فيه:

يا أبن نهيا رأس على ثقيل ... واحتمال الرأسين خطب جليل

فادع غيري إلى عبادة رب ... ين فإني بواحد مشغول

فقلت لن أدعه في عماه. ثم قلت له قد بلغ حماداً هذا الشعر وهو يرويه على خلاف هذا. قال ماذا يقول؟ قلت يقول:

فادع غيري إلى عبادة رب ... ين فإني عن واحد مشغول

فلما سمعه أطرق وقال أحسن والله لبن الفاعلة؛ ثم قال إنني لا أحتشمك فلا تنشد أحداً هذين البيتين. وكان إذا سئل عنهما بعد ذلك قال ما هما لي.

واشتد الهجاء بين الشاعرين فكان بشار يهجو حماد وهو في البصرة وكان حماد يرد عليه أو ينظم ما هو شر منه وهو في الكوفة. فكان من جملة ما قال حماد في بشار:

والله ما الخنزير في نتنه ... بربعه في النتن من مسه

بل ريحه أطيب من ريحه ... ومسه ألين من مسه

ووجهه أحسن من وجهه ... ونفسه أفضل من نفسه

وعوده أكرم من عوده ... وجنسه أكرم من جنسه

ولما سمع بشار هذه الأبيات تظاهر بعدم الاكتراث وقال: ويلي على الزنديق! لقد نفث بما في صدره. فقي له وكيف ذاك؟ فأجاب ما أراد الزنديق إلا قول الله تعالى (لقد خلق الإنسان في أحسن تقويم) فأخرج الجحود بها مخرج هجائي. وهو قول متهم في متهم.

قال الرواة وهذا خبث من بشار وتغلل شديد. وهو خبث حقاً والتفات فطن، فيه سرعة خاطر، يتقطر غيظاً وحقداً من هذا الشاعر الأعمى على ذلك الخصم الذي يراه ولا يتمكن بشار من رؤيته فيصفه:

قال الشريف المرتضي وأول من جعل نفي الإلحاد تأكيداً للوصف به وأخرج ذلك مخرج المبالغة، مساور الوراق في حماد عجرد حيث قال:

لو أن ماني وديصانا وعصبتهم ... جاءوا إليك لما قلناك زنديق

أنت العبادة والتوحيد مذ خلقا ... وذا التزندق نيرنج مخاريق

ومساور الوراق صاحب هذه الأبيات شاعر رقيق ماكر من الهجائين وله في الهجاء مكانه.

وكان ممن يخشى لسانه. وهو القائل في أهل الرأي والقياس:

كنا من الدين قبل اليوم في سعة ... حتى بلينا بأصحاب المقاييس

قاموا من السوق إذا قامت مكاسبهم ... فاستعملوا الرأي بعد الجهد والبوس

أما الغريب فأمسوا لا عطاء لهم ... وفي الموالي من شح علاميس

وكان موجعاً في هجائه. ويمتاز عن أقرانه الشعراء بسعة ثقافته واطلاعه على الكتب بحكم مهنته ولذلك كان يخشى المثقفون وهجاءه فكانوا يسترضونه بالدراهم ويشترون مدحه بالمال.

وكان ظريفاً صاحب مجلس ومعشر محدثاً يدل ما تبقى من شعره على خفة روحه، له قصيدة جميلة في وصف الطعام يصف فيها أنواع الأطعمة والأصناف الفاخرة من الأشربة، من أوائلها:

اسمع بنعتي للملوك ولا ترى ... فيما سمعت كميت الأحياء

إن الملوك لهم طعام طيب ... يستأثرون به على الفقراء

أني نعت لذيذ عيشي كله ... والعيش ليس لذيذه بسواء

ومن الهجاء الذي قاله بشار في حماد عجرد وهو يمثل بخل المهجو وبعده عن الكرم قوله:

إذا جئته في الحي أغلق بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين

فقل لأبي يحيى متى تبلغ العلا ... وفي كل معروف عليك يمين

وهنا لك أبيات أخرى قيل إنها في هجاء حماد عجرد وقيل أنها في هجاء حماد بن الزبرقان وهو رجل من هذه الفصيلة. وقيل بل إنها في هجاء حماد الراوية وهي:

نعم الفتى لو كان يعرف ربه ... ويقيم وقت صلاته حماد

هدلت مشافره الدنان فأنفه ... مثل القدوم يسنها الحداد

وأبيض من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سواد

وكانت لحماد عجرد بطانة وجماعة ترتاح إليه ويرتاح إليها وهي على شاكلته بالطبع، مثل حريث بن عمر وكان حماد ينزل عليه وكان من المشهورين بالزندقة. ومثل مطيع بن إياس وهو علم بالزندقة لا يحتاج إلى تعريف، ومثل يحيى بن زياد. وكانوا يجتمعون ويتنادمون ويتنابزون بالألقاب. حدث علي بن الجعد فقال: (قدم علينا في أيام المهدي هؤلاء القوم حماد عجرد ومطيع بن إياس الكناني ويحيى بن زياد فنزلوا بالقرب منا فكانوا لا يطاقون خبثاً ومجانة).

وكانت محجة القوم في الكوفة بيت رجل يقال له (ابن رامين) قدم من الحجاز ولعله كان من أصل يهودي وكان صاحب قيان ونبيذ (فكان من يسمع الغناء ويشرب النبيذ يأتونه ويقيمون عنده مثل يحيى بن زياد الحارثي وشراعة بن الزند بوذ ومطيع ابن إياس وعبد الله بن العباس المفتون وعون العبادي الجيري ومحمد بن الأشعث الزهري المغني وكان نازلاً في بني أسد في جيران إسماعيل بن عماد فكان إسماعيل يغشاه ويشرب عنده، ثم انتقل لبعد ما بينهما. وكان لابن رامين جوار ويقال لهن سلامة الزرقاء وسعدة وربيحة وكن من أحسن الناس غناء).

وقد اشتهر أهل الحجاز بالميل إلى الغناء وبإتقانهم فنونه، ولذلك كان مجلس (ابن رامين) من مجال طلاب الغناء المشهورة في الكوفة. وكان عامة من يقصده من أصحاب الفن يحسنون الغناء وقول الشعر أو روايته على الأقل. وكان إسماعيل بن عماد مثلا صاحب شعر رقيق جميل وحس مرهف يقول الشعر في (ابن رامين) وفي صاحبات ابن رامين وفي شعره نغم موسيقي. وأما محمد بن الأشعث الزهري وهو من رواد هذا المحل ومن المقيمين في بني أسد فكان مطرب النادي، كان يغني تلك الأشعار ويأتي بألوان من الغناء تهز السامعين هزاً. وكان مطيع بن إياس وهو صديق حميم من أصدقاء حماد عجرد من هؤلاء الفنانين الموهوبين أيضاً وكان ينظم الشعر ويرويه. فكانت هذه الندوة ندوة الفنانين، هذا ينظم وهذا يغني وهذا يروي وهذا ينكت، ومن هذا الخليط يتكون ذلك الجو الأدبي الذي امتازت به مدينة الكوفة كما امتازت حانات باريس وأمهات المدن الأوربية التي اشتهرت بالنتاج الأدبي فتجد فيها الشذوذ والعبقرية والسذاجة والإتقان والمتناقضات التي لا تجتمع في نوادي العاديين من الناس.

أما بضاعة هذه الطبقة التي كانت تدر عليهم الأرباح فكانت الشعر وروايته، وكانوا يحصلون على العطايا والهدايا إما عن طريق المديح وإما عن طريق الذم وهجاء الناس. وكانوا ينفقون أموالهم بغير حساب على القيان والشراب والمجالس والذهاب إلى البساتين لتمضية الوقت بين الماء والخضراء والوجوه الحسنة. وكان بستان شورين من البساتين التي كان يقصدها إسماعيل بن عمار وصحبه وفي صحبتهم قيان بن رامين. فهنالك شراب وهنالك شواء وهنالك غناء. وهنالك الحياة التي كان يقضيها فرسان العصور الوسطى. أو جماعة من طلاب الجامعات في ألمانيا التي كانوا يقضون أوقاتهم على هذا النحو أيام الفراغ.

د. جواد علي



مجلة الرسالة - العدد 768
بتاريخ: 22 - 03 - 1948

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى