عبد القادر وساط - صفحات مختارة من كتاب " إتحاف الخلان بأخبار طاغية نجدان مع الوزراء و الأعيان" لأبي بكر الخالدي

حدثنا أبو الفضل النجداني، قال:
حضرتُ ذات ليلة مجلسَ الطاغية، وعنده جماعة من الوزراء والشيوخ والعلماء والشعراء، بينما الجارية " دِهَاق " - المعروفة بفَم الفتنة - تتغنى بقول الشاعر:
بُكاءٌ و كأسٌ كيف يَتّفقانِ = سَبيلاهُما في القلبِ مُخْتلفانِ
فطربَ الطاغية طرباً عظيما، حتى حسبْنا أنه سيشقّ ثيابَه، ثم إنه التفتَ بعد ذلك إلى الشيخ أبي الحسن الأغلب، وزير الغناء، وسأله:
- لمَن الشعر يا أبا الحسن؟
قال:
- هو لمُسلم بن الوليد، الملقب بصريع الغواني.
فحرك الطاغية رأسه وقال:
- رحم الله صريعَ الغواني، فهو من أبناء الكوفة الأفاضل. وكانَ قد جزعَ جزعاً شديداً على زوجته، بعد وفاتها، وتنسّك مدة طويلة وعزمَ على ملازمة ذلك، فأقسمَ عليه بعضُ إخوانه يوماً و قدموا له الشرابَ، فامتنع وأنشأ يقول:
( بكاء و كأس كيف يتفقان = سبيلاهما في القلب مختلفان )
ولعلكم تعلمون أن جدي الأكبر، الخليفة هارون الرشيد، هو الذي أطلقَ عليه لقبَ " صريع الغواني"؟
ولما انتهى الطاغية من كلامه، أشار إلى الشيخ الجليل أبي الفضل الوراق - المعروف بنافخ النار- وقال له:
- يا أبا الفضل، أنتَ وزير المرأة في حكومتنا منذ عقد من الزمن، فهلا بينتَ للحاضرين معنى كلمة " الغواني " بشيء من التفصيل.
قال الشيخ أبو الفضل:
- الغواني - أعزك الله وأدام طغيانك - جمْعُ " غانية". وهناك وثائق رسمية في وزارتنا تَحمل توقيعَك الميمون، تنصّ على أن " الغانية " في بلاد نجدان هي " المرأة التي استغنَتْ بحُسنها وجمالها عن سائر أدوات الزينة." ولكن بعض العلماء يختلفون معنا في هذا، أيها الطاغية الهمام. فالشيخ أبو صاعد الحلواني يزعم أن الغانية هي " الشابة التي تُعجب الرجال ويُعجبها الشبان ." والشيخ أبو الحسن الفرضي يرى أن الغانية من النساء هي " التي استغنَتْ بزوجها عن غيره من الرجال. " والشيخ عباس الغَنوي يرى أنها " الشابة العفيفة، سواء أكانَ لها زوجٌ أم لم يكنْ. " وكنتُ قد أمرتُ- بعد إذنك - باعتقال هؤلاء الشيوخ المخالفين لرأينا، الرافضين لمعانينا، المتمردين على لغتنا، فهم إلى اليوم في سجن الكثيب.
قال الطاغية:
- حسنا فعلتَ أيها الوزير. إنما وُجد السجن لأمثال هؤلاء الغاوين. ولو كانوا يحفظون أشعارَ العرب لمَا استمروا في غيهم. وهل كان الشاعر ابن قيس الرقيات، مثلاً، يقصد معنى آخر سوى المعنى النجداني لكلمة " الغواني" في بيته المشهور:
( لا بارك اللهُ في الغوانيِ هلْ = يُصْبحنَ إلا لهنّ مُطَّلبُ؟)
فنظر إليه الشيخ الوزير نظرة المتوجس وقال له:
- يا سيدي، لعلك تَذكر أنك أمرتَ أيضاً بتسيير الشاعر عُبيدالله بن قيس الرقيات إلى الكثيب بسبب بيته هذا دون سواه؟
فأجابه الطاغية و هو يهم بالنهوض:
- نعم، أذكر ذلك. لقد سجنتُه لأنه حركَ الياء بالكسرة في كلمة الغواني، وذلك للضرورة الشعرية. فهل أنا في ذلك يا لنجدان ظالم؟ ألم يكن من الضروري أن أضعه في الجناح الخاص " بمرتكبي الضرورات الشعرية "، في سجن الكثيب؟
قال الشيخ أبو الفضل:
فلما نطق الطاغية بذلك الكلام، أثنينا على قراره ذاك ودعونا له بالنصر وبطول البقاء، حتى يقضي على الفتنة ويوحد كلمة اللغويين والنحاة والشعراء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى