محمد بقوح - التقدم ضدّ خرافة الوصول.. ( في سبيل الصداقة الفلسفية )

التقدم حقيقة ممكنة دائما، حين يكون متخلّقا ومحتضنا للانسان . لكن الوصول يبقى خرافة، وقطيعة وهمية، ونهاية مختلقة جوفاء. التقدم منارة الحق و الحرية و الصداقة الفلسفية. أما الوصول فعالم مغلق، وبكاء على الطلل، وسذاجة تفكير مسطح، و إقصاء للآخر المختلف، وتعصّب أعمى منفر، ورفض غير مسؤول للاختلاف المنشود، بالنسبة لجميع ثقافات العالم قديما وحديثا .
لا شك أن واضع فكرة " الوصول "، افتراضا على الأقل، من أولئك الذين يخافون من السعي الدائم إلى إرادة حياة التغيير والتقدم، ونيل القوة المدهشة لصداقة الفلسفة و الفلاسفة المتقدمين، ممن يتشبثون بطبيعة الشيء تقربا، ويحترمون ما هو إنساني في الإنسان حتى النخاع، مهما كان زمنهم ماضيا قديما، وكانت أمكنتهم صحراء بعيدة عن زمن التفكير المفكر في شروط حياة الحضارة الراهنة .
لعل الصداقة الفلسفية، هنا و الآن .. فعل تأسيس فاعل، و ليس فعل وصول منفعل. فعل تواصل و انفتاح، وقوة التفكير وعمق الرؤية، وليس فعل انغلاق، و إقصاء، و احتكار، ورفض المختلف. صداقة الفلسفة، هي اختيار من لا اختيار له، في سبيل تفعيل حركة العقل المتقدم إلى الأمام، القائد الأعظم إلى مملكة الإنسان و الحياة الفعلية على هذه الأرض. وليس البقاء في ظلمة جزيرة النص المنفي داخل أسلاك التاريخ الموضوع، والمقموعة أنواره التي مرت ذات يوم من هناك .
إننا نقرأ في الموقف الماضوي المتزمت، لأطروحة الوصول النهائي، بمفهومنا البحثي، ضمنيا، نوعا من التفكير العدواني، وعدم الاعتراف المستحق بقوة الآخر المختلف. غير أن العكس هو الذي يجب أن يكون . لأن فعل الوصول، كنقطة نهاية، في هذه الحالة، يتحوّل، حسب تحليلنا، إلى ظاهرة منفعلة ضعيفة، تؤشر على الوجود الكمّي لقوى نظام الارتكاس، في زمننا، و المكتسحة للحقل الاجتماعي العام. بحيث نفهمها كحقيقة موضوعة مختلَقة، لا تهمّ سوى ذات العقل البسيط، والمتواضع الراغب في الوصول، كنتيجة ضرورية لاختياره الذهني، و المعتمد كطريقة تفكير ثابتة متسرعة، دون وعي منه في الغالب، أو بوعي مخدر. أو بفكر منفعي هدّام مقنّع بالدين أو بالفن أو بالسياسة .. أو بسلطة المال و الإعلام .. وغيرها من وسائل التخدير و الإكراه الاجتماعية السائدة في عصرنا.. إلخ . نتحدث هنا عن عامة الناس، وعن جزء مهم من نخبة المجتمع، المساهمة في صنع القرار الأساسي، الذين اختاروا السير مع تيار ما هو سائد و ثابت ومُهيمِن. هؤلاء المواطنون الذين غالبا ما نجدهم ضحايا المواقف المتعصبة، بسبب جهلهم لحرب المواقع، و الصراع من أجل السلطة، تلك المواقع الكائنة في بيئتهم المجتمعية.. فنراهم يختارون أو يدفعون لاختيار مواقع معينة: ضدّ شرط الحياة.. و ضدّ عين العقل .. و أيضا ضدّ بهجة الفلسفة .. و أساسا، ضد أهل نور الفكر الحر.. فيكون مصيرهم تراجيديا، تلعب به أيدي الجلاد، نتيجة الاختيار الخاطئ، و التفكير المضلل غير السليم .
إن الوصول هنا، يعنى التوقف عند نهاية الطريق، و الكف عن نبض الفعل، و التجرد التام من قوى الحركة و التغير، وعن إنتاج الموقف النقدي و السلوك المتقدم، صوب الأمام و المستقبل المنفتح على مفاجئات عالمنا المتغير. يعني أننا هنا، بصدد ذات عقل ثابتة "تفكر"، بفعل العادة الغرائزية المكرورة، التي تميل طبيعيا إلى وضع الارتكاس، و الارتخاء و الانفعال، و الاستسلام الكلي أو المرحلي، لوهم الوصول إلى عتبة نص "الممنوع"، ونقطة النهاية التي لا نهاية سواها. مركزية سلطة النص العليا .. النص الواحد و الوحيد. دكتاتورية سلطة الوجدان لا محالة .
أما التقدم الإيجابي، بمعية التفكير النقدي، و الصداقة الفلسفية الخلاقة، في مسار الإنسان المتعدد، وفعل الإبداع الحر، فهو من مبادرات عملية النافعة للعموم، قبل النخبة المتنورة، وخرق جريء وفاضح للحدود الوهمية. هذا السلوك المتغير والمتقدم النوعي يعتبر عند الوصوليين ( من الوصول ) الثابتين في مواقفهم، غرابة غير حميدة، وخروجا غريبا عن المألوف، يفتقد لأدنى الشرعية الاجتماعية و القانونية.. و التاريخية والثقافية السائدة.
إن قضية الوصول هذه، عكس مبدأ الانطلاق و البداية و الولادة، ذات الملمح التراجيدي، كالصداقة الفلسفية بالضبط، تؤسس، من الناحية الفكرية العميقة لأطروحتنا، لقدر الميتافيزيقا المُفارِق، وتبشر من تمّ بالإنسان الضعيف، المكتفي بتركيب الأشكال ووضع الأصباغ، دون القدرة على تخطي عتبة النص الجامد، وتجاوز- إن لم نقل - هدم خطوط و أسوار، بل أصنام الوصول، لإبداع مفاهيم جديدة للاشتغال، و النجاح في إنتاج، و إعادة إنتاج الانسان القوي، بعلمه وقيمه وتعليمه، وتحريره من حياة الخضوع و التدجين، إعدادا له للمزيد من فرص الضعف والسقوط . إنسان يلزم أن يوجد ويحيا كقدرة هائلة، لامحدودة .. في واقع معقد، وقابل لأن يتحوّل ويتغير باستمرار، باعتبار أن القدرة الفكرية الفلسفية البشرية، الفعالة و القوية بعمقها، هي المؤهلة لتصنع الواقع المناسب لها.. وتحسن التكيف النوعي معه .
في حين، تبقى مسألة النهاية الانفعالية الحتمية، لمفهوم الوصول، وصنّاعه المفترضين، مجرد وجود لموجود بالقوة، كما يقول أرسطو، لا يوجد إلا في الأذهان الثابتة المنفعلة به، أي بمثابة وهم في صياغة معدلة، تمّ اختلاقه من قبل نسق السلطة المُسيطر، سعيا للحد من قوة انطلاق العقول الحرة، و الإرادات المتقدمة و الفاعلة .
فكثير من الأحكام الشائعة بين الناس، تبدو كما لو كانت حقائق طبيعية، بفعل التكرار و التكريس والتداول، وبفعل غياب الوعي النقدي. و أحيانا أخرى، بفعل فاعلين متوارين خلف أقنعة المجتمع، تجد تلك الأفكار الحكيمة، و الكلمات البليغة الموزونة تسحر الوجدان، وتتخذ لها لباس ما هو مقدس. لكن الباحث المنقّب، في عمق تربة هذه التعابير المحكمة الصّنع، يستطيع تعرية مؤشرات التناقض، ومفارقات الوهم الذي خلفها، ويحركها، لتبدو للناس حقائق طبيعية وعادية .
هنا تكون للغة الاجتماعية الكائنة و المتداولة، التي نتحدث بها، سلطة القوة السحرية الخارقة، في ممارسة العنف ضدّنا، نحن المتكلمين بها، بل هي بهذا المعنى السوسيولوجي، يمكن أن تمارس على أهلها، تلك الخيانة العظمى، التي ليست بالضرورة حقيقة بريئة.. لأن حياة اللغة الفعلية، تراهن على تقدم القوة الفكرية و الاجتماعية، كقوة فاعلة ومهيمنة ومسيطرة، لمن يتكلم بها، بل ويتقن التخاطب و التواصل بها مع الآخرين، ممن هم موجودين ضرورة، داخل نفس دائرتهم التاريخية و الحضارية، أو حقلهم الاجتماعي و التواصلي . أليست اللغة هنا خادعة، توهمنا بكونها تقول الحقيقة ؟
إن خلف كل تعبير لغوي، ينتصب واقع مجتمع من البشر، في جميع العصور، سواء كان قبيلة أو عشيرة أو طبقة، يريد به فرض هويته الفكرية، وحقيقته العقلية الثابتة أو المتغيرة، وطرائقه في العيش والاجتماع و التواصل، وتدبير أساليب و قضايا شؤون الحياة. وبالتالي، ولنعود إلى مسألة الوصول و النهاية، فالإنسان هنا و الآن " صانع قيمه "، لأن اللغة هي بمثابة قناعنا غير المباشر، لتكريس قيمنا التي نؤمن بها، وندافع عنها، ونريدها أن تستمر في الزمن الآتي، الأمر الذي لن يتحقق طبعا دون التشويش، في إطار صراع القوى المجتمعية، عن وعي، أو عن غير وعي، على القوى الفكرية المختلفة و الاجتماعية المضادة، داخل نفس الحقل اللغوي و القيمي، للعنصر البشري الفاعل و المسيطر و المهيمن على جميع المستويات .

تعليقات

مقال جميل .. ولكن ألا يعتبر موضوع هذا المقال (وصولاً) أيضاً. فالمصادرة على الحق في الوصول هو بدوره وصول؟
 
مقال جميل .. ولكن ألا يعتبر موضوع هذا المقال (وصولاً) أيضاً. فالمصادرة على الحق في الوصول هو بدوره وصول؟
المقال لا يصادر الحق في الوصول، بل يسائله، وينتقد مرجعيته الفكرية. لأن الوصول من منظور المقالة الفلسفية أعلاه يعني الضرورة والمنتهى، في الوقت الذي تؤسس هي - أي المقالة - لفكر التحرر والانفتاح على المتعدد اللانهائي.
 
أعلى