محمد عبدالحليم غنيم - الساكن الجديد

د.  محمد عبدالحليم غنيم.jpg


لقد ضاعت أشياء كثيرة ولم يتغير شيء

دائما ما يكرر تلك العبارة ، عندما تسمعه لأول مرة يخيل إليك على الفور أنه يهذي ، على الرغم من جدية مظهره ، يطلق عليه سكان البيت فى همس "الساكن الجديد" ، مع أنه ليس أحدث السكان ، بيد أن صفة الجديد تلك صارت ملتصقة باسمه منذ أن أقام لأول مرة فى هذا البيت القديم فى حارة لا هي شعبية من ناحية ولا هي راقية من ناحية أخرى ، أي بين بين إذا شئنا أن نقترب من الدقة ، لكن لماذا الدقة ؟ وأين تلك الدقة ، بيت قديم مثل أي بيت قديم آخر يتكون من أربعة طوابق يسكن هو فى الطابق الثالث منه ، فى حجرة من هذا الطابق ليس بها نافذة ، بابها صغير نصفه الأعلى من الزجاج والنصف الثاني من الخشب الذي حال لون نقشه ، انتزعها صاحب البيت من صاحب الشقة الثانية فى الطابق الثالث بقرار من المحكمة ، مدعيا أنها مخزن خاص له ، ثم أجرها لذلك الساكن الجديد بإيجار يعادل إيجار الشقة نفسه فى القيمة المادية ، لقد كانت صفقة رابحة له فى ذلك الوقت .واللافت للنظر أنه لم تحدث أية مشاكل بين الساكن الجديد وبين ساكن الشقة المقتطع منها الغرفة ، وكانت امرأة بدينة تقوم بتربية بنات ابنها الذى استشهد فى الحرب .

لقد ضاعت أشياء كثيرة ولم يتغير شيء .

توفيت المرأة البدينة واختفت البنات الأربعة ولم يتغير شيء ، ظل الساكن الجديد فى حجرته الرطبة كما هو ، ليس بسبب ضيق ذات اليد أو حتى رفض مالك البيت تمكينه من سكن الشقة الخالية ، من الصعب تخمين سببا لذلك ، لكن على أية حال لم يكن الساكن الجديد يقيم فى الحجرة بصورة متواصلة حيث كان يقضي أشهر الصيف ، يونيه ويوليو وأغسطس وبعض من سبتمبر مع صديق ثم يعود للحجرة من جديد ، تكرر ذلك لأكثر من سبع سنوات .

يعرفه كل سكان المنزل بينما هو لا يعرف أحدا ، يمكنك أن تسمع من كل ساكن من سكان المنزل قصة طريفة عنه .

تقول صاحبة الشقة الأولى وهي أرملة تستقبل الرجال فى شقتها للعب القمار والشراب ، أنه قال لها ذات ليلة باردة وكان يجلس أمام حجرته فى الطرقة ، يقرأ فى كتاب قديم بينما كانت هي تمر أمامه فى ملابس البيت العادية وليس فى قميص النوم : كفى عن ذلك وأنا على استعداد لأن أتزوجك . وتضيف أنها خجلت مثل فتاة فى الرابعة عشرة وجرت إلى شقتها وقلبها يدق ، وأخذت تنتظر أن يدق الباب ، ولكنه لم يأت ، ومرت شهور وسنوات ولم يفاتحها فى الموضوع ، ثم تؤكد فى النهاية أنها لم تستقبله فى حجرتها أبدا ذات يوم .

ويقول السيد (ع) وهو من سكان الطابق الرابع أنه كثيرا ما رأى ـ أثناء عودته فى آخر الليل ـ الساكن الجديد وهو متجرد من ملابسه تماما ، مثل طفل ولدته أمه يغط فى نومه وباب حجرته نصف مفتوح أكثر من مرة ، وفى كل مرة يوشك أن يقوم بإيقاظه بيد أنه يتردد ويتركه مواصلا طلوع السلم وقد أنهكه التعب ، وعندما يصل إلى شقته تصفعه زوجته على وجهه لتاخره ، وكانت تهدأ ثائرتها بمجرد أن أقص عليها ما رأيته أثناء مروري على الساكن الجديد .

يضيف السيد ) أنه كثيرا ما كان يسمع أنات فى حجرة الساكن الجديد ، وكأن هناك طفل يبكي وأن زوجته لم تكن تصدقه عندما يخبرها بذلك ، على أنها كانت تستمع إليه فى اهتمام واضح وعندئذ يضرب كفا بكف ويقول : لماذا كنت أصر على إخبارها بكل شيء عنه ، ثم يؤكد مبتسما أنها كانت تقابله ، كانت تقوم من جواره ثم تتسحب على أطراف أصابعها إلى خارج الحجرة ثم إلى خارج الشقة ، ثم تنزل إليه فى الطابق الثالث ، وعندما تعود أكون ما زلت مستيقظا ، أفاجأها بالسؤال : أليس صحيحا ؟ فتصيح فى وجهي عن أي شيء تتحدث ؟ فأقول فى انكسار وخبث معا " الساكن الجديد" تصمت ثم تشعل سيجارة وتنام .


ما روته الأرملة ساكنة الشقة الأولى عن السيد (ع) :

كهل فى الثانية والخمسين من عمره ، يعمل باحثا فى معهد البحوث الزراعية ، يقول أنه اكتشف أكثر من مبيد حشري جديد للقضاء على دودة الأرض ـ القراضة ـ وأنه يمكن استخدامه فى قتل الذباب والصراصير والنساء ، وعند الأخيرة يضحك بعصبية ، ليس لديه أولاد ، يسكن هو وزوجته السيدة (ع) الشقة الثانية من الدور الرابع ويقول أن السيدة (ع) مريضة وأنها فصلت من العمل لأسباب غامضة ويؤكد أنها أسباب تمس الشرف وهي حاصلة على بكالوريوس فى العلوم الزراعية مثله ، بيد أنها لم تكن تحب عملها ، ولذلك عملت مدرسة لعدة سنوات ثم استغنوا عن خدماتها ، على الرغم من أنها لم تتجاوز الأربعين من عمرها ، ويؤكد السيد (ع) أنها على علاقة بشخص ما غيره ، قد يكون الساكن الجديد

ملحوظة : إن أسوأ ما فى السيد (ع) غشه فى اللعب إضافة إلى بخله الشديد .


ما رواه الصديق الوحيد للساكن الجديد بعد مقتله :

عن أي ساكن جديد تتحدثون ؟ إنه صديقي الأوحد ، فهمى المدبولي ، ما زالت صورته منطبعة فى ذهني وماثلة أمامي مثل لوحة مرسومة بدقة ، عينان غائرتان يعلوهما حاجبان كثيفان ، يكادان أن يتلاصقا ، شعر رأسه قصير ، مقصوص بعناية فائقة ، أما شعر لحيته ، فيخيل لمن يراه أنه لم يحلقها أبدا ، فهي نابتة دائما مثل نبات أرض عجوز ، فم دقيق وأنف صغير الحجم ، وعلى الجملة ليس قبيح المنظر وأجزم أنه وسيم ، ليس بالقصير ولا بالطويل ، شاب تجاوز الخامسة والثلاثين ، بيد أن منظره يعطيه سنا أكبر من هذا .

الحجرة ؟ وما شأنكم بالحجرة ؟ مسرح الجريمة ، نعم رطبة ، بيد أنها نظيفة ، جدران ثلاثة مغطاة بلوحات ثلاث ، الأولى لوحة للعذراء والطفل بحجم كبير يكاد يغطي النصف الأعلى من الجدار ، والثانية لوحة تغطي الجدار الثاني من الأرض للسقف وهي عبارة عن مساحة كبيرة من اللون الأزرق بمختلف درجاته ، رسمها المرحوم بنفسه ، يخيل لمن يراها أنها قطعة من البحر أو ستارة قماش معلقة على الحائط أو لا شيء .. أما اللوحة الثالثة فهي لامرأة عارية تماما يلامس شعرها السقف بينما تقف قدماها على الأرض ، تضع يدها اليسرى على نهدها الأيمن ، بينما تستقر يدها اليمنى على ساقها اليسرى ، تقف فى خشوع كأنها فى صلاة ، بيد أنها تنظر لشيء ما فى الأرض تحت قدميها .

ليس بالحجرة أثاث سوى سرير منتصب فى وسطها بحيث لا يلامس الجدران ، وهو سرير غريب أشبه بصندوق نظيف عليه مرتبة وملاءة بيضاء ومخدة بعرض السرير ، على الأرض عدة أكوام من الكتب مرصوصة بعناية تحيط بالسرير مثل حلقة دائرية أو سلسلة حديدية ضخمة ، أما ملابسه فهي قليلة ومعلقة جميعها على شماعتين على جانبي الباب الذي يتوسط الغرفة ، وفى ركن قصي من الحجرة يوجد مقعد جلدي أحمر اللون بلا مسند يستعمله المرحوم منضدة ، دائما يوجد عليه كوب زجاجي كبير مليء بالماء ، وفى الركن المقابل مقعد من الخيزران الثقيل أمامه منضدة دائرية صغيرة يستعملها فى الأكل والقراءة والكتابة .

ملحوظة : يبدو أن المرحوم كان يكتب مذكراته اليومية فهناك أوراق كثيرة محروقة تماما على الأرض .

وفاة الساكن الجديد والسيدة (ع) فى ساعة واحدة :

فى هذا العام قلق سكان المنزل على الساكن الجديد ، لماذا لم يعد هذه الأيام ، فقد انقضت أشهر الصيف التى اعتاد أن يختفي فيها عن المنزل ، وفى منتصف سبتمبر ووسط هذا القلق على مغيب الساكن الجديد ، أبلغ السيد(ع) عن مقتل زوجته السيدة (ع) وبعد معاينة الجثة قال الطبيب الشرعي أنها حالة انتحار ، ولما كان لابد من البحث عن أسباب الانتحار ، كان من الطبيعي استجواب سكان البيت كإجراء روتيني ، وبطريق الصدفة اكتشف أحد الأفراد أن باب حجرة الساكن الجديد مفتوح ، وعندما دفعه برفق انفتح الباب على جثة ملقاة بجوار السرير وكانت عارية تماما .

وأكد الطبيب الشرعي بعد المعاينة أن حالة السيد فهمي أحمد المدبولى ، المعروف بين السكان بالساكن الجديد حالة انتحار هي الأخرى ، وأن الحالتين قد توفيتا فى توقيت واحد تقريبا .



بعد الوفاة :

1 ـ يقول السيد (ع) أنه كثيرا ما كان يرى زوجته عارية تماما من ملابسها ، كأنها طفل مولود لتوه وأنها كانت تجلس أمام الشقة فى منتصف الليل ، وكانت ترفض بشدة أن ترتدي ملابسها ، وعندئذ ينزل إلى الساكن الجديد ليستنجد به فيجده جالسا أمام باب حجرته عار تماما هو الآخر ، بينما السيدة البدينة تقف خلف الشراعة المفتوحة وهي تراقب المشهد ، فيعود خجلا .

2 ـ تقول الأرملة ساكنة الشقة الأولى ، إن السيد (ع) مخبول العقل وشكاك ، ويتهيأ له أحداث لم تحدث ، وما يقوله عن علاقة زوجته بالسيد فهمى المدبولي لا يصدقه أحد ، وهو فوق كل هذا عنين ، وعليه أن يخجل من نفسه .

3 ـ يقول صاحب المنزل أن السيد فهمى المدبولي كان رجلا محترما ، دمث الخلق ، لم يتأخر شهرا عن سداد إيجار الغرفة وأنه كان يدفع الشهور التى يترك فيها الغرفة خالية دون أي تذمر ، وأنه لم ير أبدا فى سلوكه أي شيء غريب أو معيب ، وأنه يأسف لما حدث له ، وأنه ودرءا للشائعات ، أقول أن السيد فهمى أحمد المدبولي مصري الجنسية ومدون فى بطاقته الشخصية ما يفيد أنه يعمل مدرسا للغة الإنجليزية ، وقد عرضت عليه أن يعطي ابني دروسا فى اللغة الإنجليزية فى أشهر الصيف مقابل مبلغ مغر ، كما عرضت عليه الإقامة فى الشقة بعد وفاة السيدة البدينة وذهاب البنات الأربع ، ولكنه رفض بأدب جم مقدرا عرضي .

فصل الختام وآخر ما رواه الصديق الوحيد للمرحوم :

فى الحقيقة ربما كنت الصديق الأوحد للمرحوم ، وقد كان يقضي معي شهور الصيف التى يكون فيها بعيدا عن البيت ذي الطوابق الأربعة ، والذي يسميه المقبرة . وقد كتب فى مذكراته التى تركها كل شيء ـ وهى غير الأوراق المحروقة التى كانت ربما مسودة لها ـ عن علاقته بالسيدة (ع) وهى أشياء لا يليق ذكرها هنا ، وهي على أية حال تؤكد وجود علاقة بينه وبين السيدة (ع) ، لكن ما لن أصدقه أبدا أن يكون قد انتحر ، إنه لم يتكلم أبدا أمامي من قريب أو بعيد عن شيء كهذا ، وما لن أصدقه أيضا علاقته بالمرحومة السيدة البدينة ، أما السيد (ع) فلا أعرف كيف كان يشفق عليه ، وهو الذي اتهمه بوجود علاقة آثمة بينه وبين زوجته . رحمك الله يا صديقي الأوحد .


د. محمد عبد الحليم غنيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى