إبراهيم محمود - يحيّرُني حقّاً وحقاً

يحيرني حقاً، حين أتعرف على منهج معين في الكتابة الفلسفية أو النقدية أو التاريخية...الخ، فأقرأ تالياً من يفتتن به، كما في المفردة الدارجة حديثاً " لايك "، ليكون هناك تنافس بين ثلة اللايكيين في من يكون الأول في تطبيقه على موضوع معين: نقدياً، أم تاريخياً أم فلسفياً.
دون السؤال " لأن الافتتان يعدِم السؤال " عن السيرة الذاتية وملابساتها للمنهج ذاك، أن لغته ليست مجرد كلمات، وأن كلماتها ليست مجرد طول وعرض وعمق طبعاً، إنما ثمة الروح التي تضم إليها ما يخفى حتى على واضع المنهج نفسه، في مفهوم البدايات أو التداخلات، حيث تحضر البيئة بتضاريسيتها، والثقافة بتنوعها، وخاصية العبارات وتداعياتها الاجتماعية...الخ. إن اتقان لغة لا يعني إطلاقاً كسب صداقتها، التوقيع على عقد دلالي، وإدراكي بينيّ هنا. وأن تتحدث ثقافة ما بلغتها، فهي أنها تسمّي أشياءها التي يكون لها حضور متعدد الأبعاد والمؤثرات وما يقارب كلمة السر المتحوّلة التي تكون في حكم المؤجَّل ليكون السعي إلى معرفتها أبدياً.
ذلك ما لا يلتزَم به في الأغلبية الساحقة من الكتابات مدعية الرصانة في جوانب مختلفة، لأن نزعة/ غواية " اللايكية " مفخخة، بمقدار ما تكشف عن انعدام التكافؤ في التثاقف .
يحيّرني حقاً، أن أقرأ نصاً، أو ما يكون في حكم النص، في موضوع معين، وهو يتظلل بمنهج معين ويتقدم باسم " مالكه " محاولاً التقدم بما لديه من معلومات لا تتساوق مع المعلومات التي تخص الرأسمال اللغوي والاعتباري والإشاراتي لذاك المنهج ومن يعهَد إليه اسماً.
إذ يوجد ما هو غائب والذي يقوم بعملية التعرية الذاتية لعين الكاتب، وهو عدم تحقيق النصاب المعرفي، النفسي، الاجتماعي الرمزي لمن يوجَّه إليه للاستعانة به، وما يستدعى من أقوال أو تعابير لتحقيق المطلوب، ومن يكون مخاطباً، للحصول على براءة ذمة في الكتابة هذه، باعتبارها كافية مكتفية، سوى أن الغائب الأكبر، الأخطر، الأكثر مدعاة للنظر فيه هو الكاتب نفسه: ما إذا كان الذي ينقّب فيه، ينطلق من حافز ذاتي، وملؤه حرية واعية باسمها، ويمتلك سلطة ديمقراطية، إن جاز التعبير على قواه النفسية ودوافعها وميولها، مانحاً إياها القيمة الاكتشافية ذاتها، وليس التفريق استجابة لما هو عُرْفي، أو أكاديمي ضيق، أو سائد، ولا يكون هناك ما يمنعه من تسمية أي شيء، ومن إطلاق أسماء تعنيه على ما يقوم بتقصي حقيقته.
إن الذي " يتليك " هنا ينتمي إلى بيئة ومجتمع وتاريخ وثقافة وأرومة نسْلية وشخصية مفهومية مكوَّنة من كل ذلك، على قدر مكونات المنهج الذي يُسمّيه، كما لو أن منهجه لم يُتَح له الظهور أو الولادة إلا بعد أن عاش زمناً قد يطول أو يقصر تبعاً لأهميته ليعيش مخاض الولادة وهو يحمل بصمة مؤثراته المحيطية المادية والمعنوية.
ذلك يستوجب على " المتليّك " أن يتحرر من " عقدة " هذه المفردة، في أن يكون ممتلئاً بواقعه، بمجتمعه، بأنظمته المختلفة: السياسية والاجتماعية والثقافية، ومضاء بها، بمقدار ما يتفاعل معها ويحسن التعامل معها ناطقاً ومستنطقاً، ويكون مرجعه من خلال ثراء المتحصَّل لديه، وهنا يأتي دور المنهج الذي يوائم ما يدرسه، وليس أن يطوَّع الموضوع في خدمة المنهج الغريب، وما في هذا الاستقدام من هدر روحي للعلاقة، ومن تجلّي الاستبداد المنهجي وعبودية التابع طوعياً.
يحيّرني حقاً وحقاً، حين أقرأ كتباً، مقالات تزعم أنها حوارية وهي سجالية ودخيلة على بنية المنهج ومن يعرَف به " أجنبياً "، لأن المستقدَّم يُتنازَع عليه، وتبرز الثقافة البيئية، أو المحيطية مسفوحة، أو مشوهة، بسلطة إلحاقية تعسفية.
يحيّرني حقاً وحقاً، حين يتقدم أحدهم بمؤَّلف يدّعي الجدة فيه، ولكنه منذ الصفحة الأولى يطرح سلطة الذات المعرفية جانباً، فثمة تبعية أحادية أو مزدوجة لما هو داخلي/ محلّي بحكم النسَب التقليدي، ولما هو خارجي، ليكون الاثنين في وضعية متقاسميه ومجرّديه من التكوُّن .
إذ لا أسهل من أتحدث عن منهج أو أكثر، وأقول عن أنه صالح " لاحظوا دلالة هذه المفردة ومنزلقها المفهومي! " للتطبيق على ما هو تراثي: أدبي، فولكلوري، تاريخي، واجتماعي، حيث تتراءى مشرحة تسرّب الدم خارجاً وتضرّج كامل الجسد " النصي " به.
ربما، بالطريقة هذه، يصبح الكاتب، في أنواعه ومراتبه، قاتلاً لما يتعرض له، ومنتحراً انتحاراً ذاتياً وذلك على مذبح " اللايكية " المستحدثة أو المزركشة، وإن لم يعَلم بها، جرّاء لايكيته .
إنه مجرد رأي ليس إلا، إنه مجرد حالة وعيوية منجرحة على الأقل !


إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى