عزيز الحدادي - أقصى مراتب اللذة

« إذ كل لذة فهي أبدا كالظل لشيء آخر ».. ابن باجة

لم يكن بإمكان اللذة أن تحقق ذاتها إلا عبر اتصالها الروحي بالألم فهي تنشده باستمرار : » نشيد الألم « على الرغم من أن هناك لذة لا يتقدمها الألم، وهي لذة العلم والحكمة. أما لذات الحواس فإنها تجمع بينهما إذ » قد يقع في السمع التذاذ وتألم مثل حالنا عند سماع الأغاني المحزنة« لكن كيف يمكن تفسير هذا العشق الانطولوجي الذي يجمع بين اللذة والألم في نفس الآن ؟ ألا يمكن أن يؤدي ذلك إلى تدمير متبادل بينهما ؟ وما هي المسافة التي تفصل لذة العلم عن الألم ؟ بل أكثر من ذلك ما هي أنواع اللذات ؟.

يحدد ابن باجة في رسالة الوداع أنواع اللذات قائلا : » تنقسم اللذة إلى صنفين : صنف يعرف باللذات الطبيعية وهي لذة المحسوسات كالالتذاذ بالحار والبارد، والتي ترد أجسامنا كالمأكولات والمشروبات، وكالالتذاذ بنوع الأكل والشرب والنكاح وهذه توجد بالطبع والذات عند تقدم اضدادها. فإن الجوع والعطش يتقدمان الأكل والشرب، ومتى كان أحدهما أشد كانت اللذة أكمل وأتم« . أما الصنف الثاني من اللذة فهي المعقولات وما يجري مجراها كالالتذاذ العقلي، ربما يكون هذا التحديد الذي قدمه الفيلسوف الأندلسي المغربي للذة الطبيعية يدخل ضمن مشروعه المعرفي الهادف إلى تمييز لذة النظر الفلسفي عن الأنواع الأخرى، ذلك أن المسألة لا تقتصر على ذكر محاسن كل لذة على حدة فحسب، بل ان ما يسعى إليه ابن باجة هو تحبيب الفلسفة للناس من خلال مقارنة لذتها باللذات الأخرى، و الشاهد على ذلك أنه يحــاول أن يقـرب بين لذة العلم والكمـال الإنسانــي لأنـه إذا : » كان ما يكمل بها الجسد هو الصحة وما تكمل به القوة الناطقة هو الحق«، فهل معنى ذلك أن لذة الحواس أيضا مهددة بشراسة الألم وما يحدثه من تدمير؟، هل يمكن أن نسلم من الألم بدون حكمة؟.

لا يتردد فيلسوفنا في الاعتراف بأن الذات الطبيعية تشترك مع لذة الحواس الأربع : »وأبين الحواس ?538; في رأيه ?538; لذة البصر ولذة السمع. فانا إذا أبصرنا مرأى حسنا وقع التذاذ بما أبصرناه دون أن يتقدم لنا تألم بما أبصرناه، وكذلك السمع«. على الرغم من أنه يتحفظ من حاسة السمع باعتبارها قد تجمع بين اللذة والألم في نفس الوقت. يمكن القول أن الألم أعدل قسمة بين الناس مثله مثل العقل، إذ يوجد في الإنسان بالقوة، ويحتاج إلى أكثر من محرك ليخرج إلى الفعل.

فقد بان بأن المحرك الحقيقي للألم هو اللذة، لأن كل التذاذ هو انفعال يحصل في الجسم، بيد أن ابن باجة يستثني الالتذاذ بالعلم أو الفلسفة من هذه المعادلة لأنه : »متى طلبنا العلم فلسنا نطلبه لهذه اللذة التي تحصل متى علمنا شيئا« ذلك أن العلم يكون مطلوبا لذاته وليس من أجل غاية أخرى كما أصبح عليه الحال في زماننا هذا، إذ بات العلم العملي كالطب والصيدلة مصدرا لجمع المال وتحقيق الثروة على حساب الفضيلة، هكذا تختلط الأشياء في الحقيقة وليس في سابق الرأي، وقد عبر الفارابي عن هذا الوضع قائلا: »أقول إن إنسانا علم جميع ما كتبه أرسطو، غير أنه لم يعمل بشيء مما فيها، وآخر عمل، إلا أنه لم يعلم، فيفضل العامل الجاهل على التارك العالم«، إن الفيلسوف كيفما تصرف به زمنه، فإنه يظل دائما يفضل الفضيلة على اللذة التي ترتبط بالصحة، لأن الصحة قد يقتصر عليها من لم يكن معدا للعلم ولا للفضيلة النفسية، على الرغم من أن هناك استثناء خطيرا يشكك في صحته، هذه المعادلة الخطيرة التي تقابل بين صحة الجسم وصحة العقل، خاصة : »وإن الفاضل لا ينتفع بفضيلته ما لم يكن كامل الصحة، والصحيح قد ينتفع بصحته إذا لم يكن فاضلا« هنا يقربنا النص الباجي من التباس لغة الفلسفة بلغة الشعر لأن الفلسفة بقدر ما تدعو إلى احتقار الجسد باعتباره مصدرا للقلق والألم، وباعتباره أيضا يربط الروح بالأرض أو يسجنها كما قال أفلاطون بقدر ما تحرض الفيلسوف على العناية بالنفس أو العقل باعتباره يسمو به إلى أقصى مراتب اللذة: »لأن العلم الأقصى هو تصور العقل وهو وجود العقل المستفاد الذي لا يمكن فيه النسيان« لأنه في منأى عن الزمان و المكان و لا يتأثر بأحوال الجسد لأنه فاعل ولا ينفعل، كما أنه أزلي خارج عن مقولة الكون والفساد، لكن متى يصل الإنسان إلى مرتبة العقل المستفاد باعتباره عتبة تطل على العقل الفعال؟ هل بواسطة لذة الحواس أم بواسطة العلم؟. لا يتردد ابن باجة في الإعلان عن أن الطريق الوحيد المؤدي إلى أقصى مراتب العقل المستفاد هي امتلاك الفطرة الفائقة، ذلك أن الإنسان الكامل الفطرة هو الذي فطر على أن يكون لنفسه. ولا يمكن أن يكون خادما لغيره، وفي مقابل ذلك نجد من فطر على أن يكون خادما لغيره وكماله أن يخدم غيره لأنه أعد لذلك، وهذا أفضل وجوداته. هكذا يبقى في هذه المرتبة إلى أن يفسد جسمه. لأنه لا يتوفر على الفطرة الفائقة.

ويحفز فيلسوفنا تلميذه وصديقه في رسالة الوداع على الإيمان بفطرته الفائقة قائلا: »فبين أن الفطرة الفائقة هي الفطرة التي ينال بها العلم النظري. وأنت فلك الفطرة الفائقة، وحاشاك أن تنزلها منزلة الناقصة فتكون ساعيا لغيرك بالاقتصار على أن تفعل سوى العلم فتكون أقبح الظالمين ظلما لأنك مظلوم من أحب الخلق إليك وهو أنت« والحقيقة أن هذه الدعوة إلى المزج بين الأنا والمطلق مادام أن المطلق هو وحده الحقيقي، والحقيقي وحده المطلق »تجعلنا نعتقد في أهمية الكوجيطو الباجي الذي يجعل من الأنا مصدر المعرفة والوجود في نفس الوقت، ذلك أن تعظيم الأنا ومنحها مرتبة أشرف في الوجود من خلال تخليصها من خدمة الغير وعدم تحقيرها بواسطة اشتغالها في مجال آخر غير العلم أو أن يتم وضعها في منزلة ناقصة. يمكن اعتبار كل ذلك بمثابة كنز ينقب عنه الفيلسوف داخل أعماق الإنسان لترقى بواسطته النفس من مرحلة العبودية إلى مرحلة السيادة. هاهنا يلتقي ابن باجة مع ديكارت الذي اكتشف قارة الفلسفة من جديد من خلال الكوجيطو: »أنا أفكر إذن أنا موجود«، أو بامكاننا أن نقارنه مع هيغل الذي ربط بين الروح والمطلق.

إن الفلسفة في حقيقة أمرها ليست إلا مجرد تتويج لمملكة العقل باعتباره أسمى نور يملكه الإنسان صاحب الفطرة الفائقة إذ من خلاله يتعرف على أسرار العلوم وأسرار الكون، لأنه إذا كانت العلوم يقينية وكلية ومن ثم فإنها غير فاسدة. فان العقل هو أيضا مطلق وكلي وغير فاسد، لأن الإنسانية غير فاسدة، ولكن يفسد الإنسان الفرد. وإلا ما معنى استمرار افلاطون وأرسطو وابن باجة وابن رشد إلى يومنا هذا، هل استمروا في الحياة كأشخاص أم كنوع إنساني امتلك فطرة فائقة أوصلته إلى مرتبة العقل المستفاد والعقل الفعال؟.

يتوجه ابن باجة بنداء إلى صديقه الفيلسوف قائلا : » فإن شئت أن تكون تسعى ليكون كمالك في الآلات وذلك باليسار، فيكون كمالك كالحالم أو كمالك بالصحة فتكون عبدا بالطبع سواء ملكك إنسان أو لم يملكك، أو يكون كمالك بالفضائل الشكلية فتكون مدبرا من سواك تحتاج إلى مدبر. وتخرج عن مرتبة الإنسانية بالطبع إلى مرتبة أشرف من الحيوان غير الناطق أو تكون كاملا بكمالك الذي يخصك فتكون قد كملت في ذاتك ولم تفتقر في الوجود إلى سواك«. يتعلق الأمر بعلاقة الإنسان بوجوده بصفة عامة، وبعلاقة الفيلسوف بالوجود بصفة خاصة، ذلك أن ابن باجة يميز بين الإنسان الذي يخدم غيره، والإنسان الذي يكون خادما لنفسه ولا يحتاج إلى غيره. وبخاصة إذا استطاع أن يحصل على الكمال الذاتي من أجل أن لا يفتقر إلى سواه، لعل هذه المرتبة التي يتحدث عنها ابن باجة لا يمكن أن تحصل للإنسان العادي، بل إنها حالة يصل إليها أصحاب الفطر الفائقة، أي الفلاسفة الذين يفضلون اعتزال العامة، وتدبير أنفسهم لأن الفيلسوف في نظر صاحب رسالة الوداع عاشق أسير للاغتراب يسعى إلى تشييد مدينته الفاضلة، مدينة لا تتسع إلا لفرد واحد، خالية من القضاة والأطباء والنوابت، ذلك أن كينونته لا تشعر بالاطمئنان والسكينة إلا في هذه المدينة، حيث يعيش مع أصدقائه الفلاسفة الذين يشبهونه بالرغم من أنهم قد ماتوا كأجسام، ولكنهم أحياء كأرواح تمتد في كتبهم. لأن خلود النفس معناه خلود الآراء الفلسفية التي نطقت بها وأصبحت عبارة عن آثار، عشق الآثار باعتبارها أقصى مراتب اللذة.


* مجلة نزوى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى