مصطفى ملح - ثلاثة عشر قفصا لترويض الزمن

(تتقافز أعضائي
ال"كنت" ال"أكون" اللا "أكون" حتى الآن
حياتي ليست مثقالا
الماضي يتضاءل
والمستقبل قليل من الماء في عينيك )
أوكتافيوباث


1- الصَّيَّاد :
نَصَبَ الفِخاخَ
ونامَ يَنْتَظِرُ الذي يَأْتي ولا يَأْتي.
ثَوانٍ ثُمَّ ساعاتٌ فَأَيَّامٌ فَأَعْوامٌ؛
تَبَدَّلَ شَعْرُهُ صَدِئَتْ مَحاريثُ الشِّتاءِ
تَزَوَّجَتْ صُغْرى البَناتِ فَصارَ جَدّاً،
غَيْرَ أَنَّ فِخاخَهُ في أَسْفَلِ الوادي
أَحاطَ بِها نَسيجُ العَنْكَبُوتْ !

2- المُسافِر :
وَجَدَ القِطارَ مُعَطَّلاً،
والسِّكَّةَ اصْطَدَمَتْ بِها قَدَمُ الحَياةِ
فَحَوَّلَتْها عَظْمَةً سَوْداءَ تَنْخُرُها نُسُورُ الصَّيْفِ.
أَبْصَرَ في المَحَطَّةِ نِصْفَ مِرْآةٍ
وبِالقُرْبِ النِّساءُ الخائِفاتُ مِنَ النُّسُورِ
وقَدْ نَسينَ بَياضَهُنَّ يَسيلُ فَوْقَ خَرائِطِ المِرْآةِ
مَجْروراً.. مُعَرّىً.. شاحِباً.. مُتَكَسِّرا؛ً
فَتَحَ الحَقيبَةَ
ثُمَّ أَدْخَلَ نَفْسَهُ فيها وماتْ !

3- المَيِّت :
بَحَثُوا عَنِ الكَفَنِ المُناسِبِ لي
ولَكِنْ ماتَ حَفَّارُ القُبُورِ قُبَيْلَ مُنْتَصَفِ القَصيدَةِ.
عادَ وأَهْلي ثُمَّ جيراني إِلى أَكْواخِهِمْ
ونَمَتْ على قَبْري النَّباتاتُ القَصيرَةُ،
ثُمَّ حينَ يَجِنُّ لَيْلي
أَخْلَعُ الكَفَنَ الذي فَوْقي
وأَدْخُلُ مِثْلَ لِصٍّ مِنْ شَبابيكِ الحَياةِ؛
فَأُبْصِرُ الأَحْياءَ كُلَّهُمُو
عَبيداً رُكَّعاً غُرَباءَ عُمْياناً
وأَكْثَرَ مَيْتَةً.. مِنّي!

4- العَريس :
سَقَطَ الجَمالُ على السَّريرِ
فَذابَتِ الحِنَّاءُ في جِسْمِ الأَميرَةِ:
ثَغْرُها فَجْرٌ مُغَطًّى بِالحَريرِ
بَياضُها مِثْلَ اصْطِدامِ قَصيدَتَيْنِ
ووَجْهُها قَمَرٌ مِنَ الياقُوتِ في كَفِّ الصَّباحِ..
على السَّريرِ جَمالُها تَعِباً ومُنْتَظِراً؛
لِماذا لَمْ يَعُدْ، بَعْدُ، العَريسُ؟
أَجابَتِ الحَسْناءُ في التِّلْفازِ: ماتَ
مُضَرَّجاً بِنَشيدِهِ.. في ساحَةِ الحَربْ!

5- الظِّلّ:
يَمْشي وَرائي
ثُمَّ أَتْبَعُهُ إِذا ما الشَّمْسُ مالَتْ
كَالمُريدِ يَقُودُهُ شَيْخُ الطَّريقَةِ نَحْوَ تُفَّاحَةِ التَّصَوُّفِ.
ذاكَ ظِلّي:
سَيِّدي، عَبْدي، أَميري، قائِدي، قَيْدي،
امْتِدادي في المَكانِ، وصُورَتي الأُخْرى..
ولَكِنْ إِنْ أَنا..
يَوْماً رَحَلْتُ مُوَدِّعاً:
هَلْ يا تُرى ظِلّي يَمُوتْ ؟!

6- الرِّحْلَة :
حَمَلُوا على ظَهْرِ البِغالِ الماءَ والزَّيْتُونَ
والقِصَصَ القَصيرَةَ والسَّجائِرَ والكِلابَ الضَّالَّةَ..
كانَ الرِّجالُ يُفَتِّشُونَ هُناكَ في الصَّحْراءِ
عَنْ بَعْضِ الأَميراتِ اللَّواتي
خانَهُنَّ حِصانُهُنَّ فَمُتْنَ في وَسَطِ الحِكايَةِ،
مَرَّتِ السّاعاتُ
لَمْ يَجِدُوا سِوى كَهْفٍ قَديمْ
دَخَلُوا إِلَيْهِ.. وقيلَ ناموا في السَّديمْ

7- الزَّمَن :
جَدّي عَلى ظَهْرِ الحِمارِ
يُراقِبُ اللَّقْلاقَ وهْوَ يَلُفُّ في مِنْقارِهِ
وَطَناً صَغيراً مِنْ حَشائِشَ ذَابِلَةْ..
جَدّي يُراقِبُ حَفْلَةَ الميلادِ في الكُوخِ المُجاوِرِ،
رَأْسُهُ مُتَمايِلٌ مَعَ آهَةِ المِزْمارِ
والطَّبْلِ الذي يَهْتَزُّ كَالنَّاقُوسِ..
مَرَّتْ أَشْهُرٌ
هَزَمَ الشِّتاءُ دُوَيْلَةَ اللَّقْلاقِ،
أَطْفَأَتِ السُّيُولُ مَشاعِلَ الميلادِ..
مَرَّتْ أَشْهُرٌ
سَقَطَ الحِمارُ فَماتَ جَدّي!

8- النِّسَاء :
في القَلْبِ سَبْعُ نِساءٍ:
أُولى تُقَبِّلُني فَأَتْبَعُها إِلى الصَّحْراءِ،
ثَانِيَةٌ تَصُبُّ المِلْحَ والقَطْرانَ في رِئَتَيَّ،
ثَالِثَةٌ مُحايِدَةٌ كَتَشْكيلٍ رَمادِيٍّ،
ورَابِعَةٌ تُواري جُثَّثي بِالرَّمْلِ،
خَامِسَةٌ تُزيلُ الرَّمْلَ تَرْميني إلى الأَشْباحِ،
سَادِسَةٌ تَمُرُّ ولا تُلَوِّحُ لي بِكَفِّ ظِلالِها،
وأَخيرَةٌ تَبْكي عَلَيَّ .. وتَنْصَرِفْ!

9- شَهْرَزاد :
وَقَفَتْ أَمامَ الكُوخِ مَرْكَبَةُ الأَميرِ
وجيءَ بِالحُرَّاسِ فَاقْتَحَمُوا زَوايا الكُوخِ،
لَمْ تَكُ شَهْرَزادُ هُناكَ..
عادُوا يَحْمِلُونَ فَقَطْ عَقَارِبَ ساعَةِ الحَائِطْ،
رَسائِلَ كانَ يَبْعَثُها إِلَيْها شاعِرٌ،
قَارُورَةَ الكُحْلِ العَتيقَةَ والعُطُورَ الهَادِئَةَ..
عادُوا..
فَظَلَّ لأَجْلِها قَصْرُ الخَليفَةِ ساهِراً
حَتَّى صِياحِ الدّيكِ في وَسَطِ الكَلامْ !

10- السِّرْك :
كُلُّ التَّذَاكِر، هاهُنا، ِ بيعَتْ
وأُرْهِقَتِ الكَراسي بِالجُسومِ العامِرَهْ.
مُلِئَتْ زَوايا السِّرِْكِ بِالمُتَفَرِّجينْ
زَأَرَتْ أُسُودُ البَهْلَوانِ وَلَمْ تُخِفْ أَحَداً،
لأَنَّ زَئيرَها لا يَبْرَحُ الأَقْفاصَ..
قَبْلَ نِهايَةِ العَرْضِ الرَّتيبِ،
رَأَيْتُ أَنَّ النَّاسَ قاطِبَةً
مُجَرَّدُ بَهْلَوانِيِّينَ في سِرْكِ الحَياةِ:
جَميعُهُمْ يَثِبُونَ كَالقِرَدَةْ
ويَقْضُونَ الفَراغَ بِداخِلِ الغيرانِ.
بَعْدَئِذٍ،
ودونَ تَرَدُّدٍ يَتَساقَطُونَ على زَرابي السِّرْكِ،
أََشْباحاً بِأَقْنِعَةٍ تُواري تَحْتَها
وُجوهاً من حَجَرْ!

11- الشَّاعِر :
حَمَلَ المُحارِبُ بُنْدُقِيَتَهُ وأَنْجَبَ طَلْقَةً ،
والعازِفُ احْتَضَنَ الرَّبابَةَ لاِكْتِشافِ جَزيرَةِ في قَلْبِهِ،
ومُرَوِّضُ الأَبْقارِ قامَ إِلى حَظيرَتِهِ،
وبائِعَةُ الرَّغيفِ إِلى الرَّصيفِ،
وقَارِئُ القُرْآنِ هَبَّ لِيَفْتَحَ الكُتَّابَ،
والبَنَّاءُ يَذْهَبُ في اتِّجاهِ الوَرْشَةِ،
والمُصْلِحُونَ إِلى منابِرِهِمْ
وصَاحِبُنا رَأَى قَلَماً وقِرْطاساً
وبَعْدَ تَأَمُّلٍ .. كَتَبَ القَصيدَةْ!

12- القَنَّاص :
تَحْكي العَجائِزُ أَنَّ قافِلَةً مِنَ النَّجْماتِ
مَرَّتْ لَيْلَةً فَوْقَ المَداشِرِ والبَيادِرِ والجِبالِ،
فَزَغْرَدَتْ فَرَحاً نِساءُ الحَيِّ،
واجْتَمَعَ الرِّجالُ يُلَوِّحُونَ لِضَيْفِهِمْ،
وتَوَثَّبَ القَنَّاصُ يَقْصِفُها بِأَلْف رَصَاصَةٍ..
نامَتْ عُيُونُ القَوْمِ في حَذَر
تَوالَتْ سَبْعُ ساعاتٍ وحَلَّ الصُّبْحُ؛
فَاصْطَدَمُوا بِرُؤْيَةِ جُثَّةِ القَنَّاصِ
تَرْقُدُ.. في العَراءْ!

13- العُصْفُور :
وَضَعُوهُ في قَفَصٍ
فَغَرَّدَ غَيْرَ مُكْتَرِِثٍ،
لأَنَّهُ مُدْرِكٌ ألاَّ فَوارِقَ بَيْنَهُمْ:
هُوَ صارَ مَسْجُوناً ولَكِنْ
يَسْتَطيعُ الشَّدْوَ في قَفَصٍ صَغيرْ
لَكِنَّهُمْ سُجَناءُ في قَفَصٍ كَبيرْ!


مصطفى مَـلَح – المغرب


المصدر: مجلة اتحاد كتاب الانترنيت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى