داود سلمان الشويلي - ظواهر شعرية في " سمـاوات الـنـص الغـائـم " للشاعر عمار كشيش.. قراءة

"أفضّل الكتابة بقلم الرصاص. أحبّ ملمس الكتابة خشنًا، كملمس القبلات الوحشية".
عمار كشيش لموقع "ألترا صوت"


تنهض القصيدة الحديثة – قصيدة النثر خاصة - عند بعض شعرائنا على بعض الخصائص الفنية التي تتميز بها اللغة تركيباً ومعنى .
و"التغريب" هو تقنية فنية تقع على اللغة ومن ثم المعاني ، بحيث تجعل النص الشعري نصا مغايراً للمألوف ، فتحدث عند ذاك الصدمة التي تنتج فهماً خاصاً لهذا النص من قبل القاريء الحصيف.
إن"التغريب" الذي نقصده في هذه الدراسة يعني كسر المألوف في التركيب والمعنى. وفي الشعر يأتي "التغريب" لتحويل الأشياء المدركة بحواسنا الى أشياء مدهشه ومثيرة لذاكرة السامع والقاريء . أو بتبديل ما تقوم به من افعال الى افعال اخرى ، بحيث يمكن للقاريء أن يفسر أو يؤول هذا النص كما تخزنه ذاكرته ، وما تمليه عليه مخيلته من أمور هو يرغب في أن يجلبه إليه النص هذا ، فيتميز هذا النص بالغموض في ذاكرة ومخيلة القاريء من خلال المعنى الذي يحدثه التركيب اللغوي.
إن الغاية من هذا "التغريب" في الشعر هو لجعل القصيدة أكثر جاذبية مما يدفعها للمقبولية في ذهن المتلقي.
امام هذه الدراسة المجموعة الشعرية الأولى للشاعر عمار كشيش المعنونة "سمـــاوات الــنــص الغـــائـــم" ، (دار أمل الجديدة) ، والتي سنتناولها بالدراسة والتحليل من حيث اللغة والتغريب الحاصل في تراكيبها التي تنتج معان أخرى غير المعاني المألوفة عند المتلقي.
***
في هذه المجموعة يجمع الشاعر عمار كشيش ما بين الهدف الإدهاشي والهدف الفكري بأعتماد لغة تغريبية إيحائية ومكثفه.
يأتي التغريب في اللغة ، أي الذي يكسر المألوف من / في الأشياء من خلال:
1- استعمالها – أي اللغة - إستعمالاً طفولياً ، استعمالاً بدائياً :
أي إن الشاعر يعود بنا الى أيام طفولتنا المبكرة حيث كنا نتكلم بما نفكر به من أشياء لا يفكر بها الإنسان البالغ . والتركيب اللغوي فيها يبرز من خلال إستعمال شيء بدلاً من شيء آخر ، كأن يكون "قدّ" الجسد يعبر عنه الشاعر "بحبل " الجسد .
* ((من يوقظ الورد في القماش المعلق على حبل الجسد
اصعدي كزفير
تبغ
احرقه القمر))ص4 -5
أو:
* ((أختي:
ما أجمل بيتكِ قريبًا من السينما. الألوان غابات أليفة.
كيس الجسد مليء بالهدايا، كيس الجسد ثقيل وأحمله مثلما أحمل كيس تفاح
بين بيتكِ، ونهر الغراف نهر لا يرى، نهر
من النسوة الناعمات)).
وإذا كان النص الأول يعلن إن الجسد نحيلاً كحبل ، فإنه في القصيدة الثانية فهو كـ "الكيس" مليء بالهدايا ، والهدايا بين الاخ و الأخت معروفة للقاريء .
أو:
* ((ــ الماءُ أشعله في ليلة الجليد
ألبسه مثل ثوبٍ))ص20
فالماء لا يمكن إشعاله ، ولا يمكن أن يلبس كالثوب ، إلا إن الشعر ليس كالنثر فهو عالم التراكيب اللغوية ذات الحس الطفولي.
2- من خلال قيام أشياء بأفعال أشياء أخرى ليس من طبيعتها القيام بها:
في الشعر يحدث أي شيء خارج عقلانية الانسان ، ألم يقولوا سابقاً ان الشعر يأتي من وادي عبقر ، حيث لكل شاعر تابع جني يوحي له.
* ((اصعدي كزفير
تبغ
احرقه القمر)). ص4 -5
فالقمر لا يحرق ، أنه ليس كالشمس ، لهذا نسأل إن كان "القمر" هذا يريد به الشاعر القمر الطبيعي ، أم إنه قمر آخر من لحم ودم؟
أترك الإجابة لتفسير و تأويل القاريء الحصيف ، لأنه معني بتفكيك شعر هذه المجموعة ، أما أنا فسأضيء له النص فقط.
أو :
* ((الرماد غيمة تغني
الدخان شبح طيب مدبوغ برائحة العنبر
القصب يفح بصوت واطئ
ربما كصوت نمل يشتغل مهتما
ـ هنا نبني قريتنا))ص8
فالغيمة لا تغني ، والدخان لا يدبغ ، والقصب لا يفح كالافعى ، إلا أن التركيبات التي تحدث في الشعر تنتج هذا العالم الادهاشي، والعجيب ، والغريب .
3- من خلال استعمال لغة مغايرة في تركيب مفرداتها، من مثل:
* ((أسبح في خمرة لزجة، ضائعة ، أو منتشرة في الغرفة مثل الهواء الراكد
خلال هذه الأشياء أغازل الأمل
و(أبحث عن شراب لبذرة الأغنية)
وأبحث عن طقس
تماما كالطقس تحبه شجرة
(النعناع) ..)). ص6
فالخمرة لا يمكن السباحة بها/ وفيها ، بل إن مفردة "أسبح" جاءت لتعطي معنى آخر غير معناها القاموسي ، بل إنها تحمل ظلال معنى آخر ، كما أراد الناقد العربي الجرجاني قبل الف سنة تقريباً أن يدلنا نحن القراء والمعنيين بلغة الشعر عن "معنى المعنى"، أو ظلال المفردة هذه.
وهذا المعنى ، أو ظلاله ، أو معنى المعنى كما عند الجرجاني ، يمكن استدانته من التعبير الدارج في "لهجاتنا" العربية ، إذ إن "لهجاتنا" العربية ، في العراق أو أي قطر عربي ، تمدنا بمثل هذه التعابير غير المألوفة في لغتنا الفصحى .
وكذلك مفردة "ضائعة " ، و"منتشرة" حيث إنهما مع مفردة "لزجة" تتشكل الصفات الجديدة للخمرة هذه التي استعملها الشاعر .
أو :
* ((سماوات القرية تمشط شعورنا وتعقد الضفائر/ أراجيح الأحلام)) ص7
فالسماء لا تقوم بالتمشيط لأي شيء ، أما الضفائر المعقودة فهي لا تقوم مقام الأراجيح إن كانت في الواقع ، أو الأحلام ، إلا أن الشعر يدفع بالشاعر أن يقول مثل هذا القول المدهش والغريب .
4- أضفاء "العاقلية " لمن ليس عاقلاً ، من مثل :
العقل ضد الشعر من أول بيت شعري قيل الى الآن ، فالمخيلة النشيطة التي تمتح من الاحلام والخيالات عالماً لها تنتج صوراً بتراكيب لغوية غير مدرجة في المعجم الخاص بتراكيبها المعهودة.
* ((لا أريد وردةً
أو حبة أسبرين
فقط ابتعدوا عن صداعي
حين أكون وحيداً
يرفرف وجعي
مثل طير مائي)). ص19
"فالوجع" مفردة تطلق على شيء معنوي غير مرئي إلا أنه محسوس بما يتركه من أثر، وأيضا فأن "الوجع " هذا ترك أثراً مثل أثر شيء أخر محسوس.
أو :
* ((ثمة رغوة في حنجرتي وخوف
الرئة كيس تكاد تشقه أشباحٌ صلبة تتدلى من سقف السخام
هل الصدأ يتمشى أو ينمو مثل وردة
منذ طفولتي أجمع الحكايات مثل التوت والشفلح من جسد جدتي أو أمي)). ص28
فالأغنية لا تضجر ، والأشباح لا تفعل شيء ، والصدأ لا يمشي ، هذا الأضفاء في العقلنة غير مبرر الا في الشعر .
5 – التردد في استخدام معنى مفردة ما :
وهذا التردد يعطي القصيدة دلالات ومعاني أكثر لو استخدم الشاعر مفردة بمعنى واحد ، إنه يترك هذه الدلالات والمعاني للقاريء ليختار ، ليوسع هذا الإجراء الآفاق امام القاريء:
* ((غيمة بيدي المرتعشة هذا الصباح المسقوف بلونه الرمادي
بذرة/ أغنية تتدحرج في جسدي الواهن)). ص5
على القاريء أن يختار بين "بذرة " و "أغنية" لتتدحرج في الجسد الواهن .
أو:
* ((هل ثمة صَبيّة أو صبي
هنا
دوّن الأغنية
أثمة صبي أو صَبيّة يملكون دفتراً يختــ ..(ص\ض) بالرغبات)). ص13
فالحرية التي يمنحها الشاعر للقاريء بين ان يستعمل لفظة "يختص" ، وبين لفظة "يختض " ، بين أن يكون الدفتر الذين يملكه الاطفال هو دفتر خاص بالرغبات ، أو إنه "يختض " بهذه الرغبات ، هي حرية يمتلكها الشاعر الحديث في قول ما يريد قوله.
إن مجموعة (سمـــاوات الــنــص الغـــائـــم) وهي تحوي هذه الظواهر الخمسة ، لا يعني انها الوحيدة في هذه المجموعة وإنما ذكرناها هنا لانها ظاهرة للقاريء والسامع وكثيلاة الاستخدام في قصائد هذه المجموعة ، فضلا عن إن القصائد التي ذكرتها تحوي على ظاهرة أو أكثر من تلك الظواهر.
***
هكذا هو الشاعر عمار كشيش يكتب بقلم طفولته التي يحتفظ بها الى الآن ، طرية ، يانعة ، خصبة ، فهو يفضل "الكتابة بقلم الرصاص. أحبّ ملمس الكتابة خشنًا، كملمس القبلات الوحشية" ، وما زالت مخيلته نشطة وحيوية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى