محمد فكري الجزار - شعریة آدم الخضراء

ما علینا من المصطلحات (شعریة) ونظریاتھا ھنا ، ولنھتم باسم العلم أولا : "آدم" ... مَن ھذا الآدم الذي في العنوان ؟ ھل ھو ذلك الأب الأول الذي فعل ما فعل فخرج من الجنة وزوجھ یحملان جسدین اكتملا بھاء وعنفوانا (یجلبان الحیاء فعلا) بانكشافھما لبعضھما عما انكشفا عنھ ؟ أم أنھ آدم الآخر ، آدم الشاعر صاحب الأعمال الشعریة ، كما یدعي ھذا المطبوع الذي نقدمھ ، وغیر الكاملة ما دام "أدم" ھذا یتنفس ؟ إلى أي الآدمین ھذین ینصرف العنوان إذن ؟ أعتقد أن جسدانیة الاسم "آدم" غیر قابل للقسمة بین الإحالتین ، حتى آدم الكلمة معناھا المعجمي جسداني ، بالرغم من أن القاعدة في الأسماء أنھا لا تعل ّل / تُ مَ عْ نَ ن ، فالإحالة تغلب المعنى إن وجد ، ولا یطابق معنى الاسم ما یحیل إلیھ دائما ، فیما عدا استثناءات فریدة لا تصل حد القاعدة الشاذة . نعم الجسد مشترك بین الآدمین والشھوة أصل في النصین عنھما ، وربما قلنا أن البعد المیتافیزیقي للشھوة یوحد بینھما كذلك ، فمن أین یأتي الفرق . من العدالة أن نلتفت إلى أن آدم الأول لم یكن یمتلك رصیدا ذاكریا كبیرا حتى عن جسده . أما آدم الآخر ، فعلى العكس تماما ، لولا "الشعریة" (سنعود إلیھا ذات مكان من ھنا) ... بین الھبوط إلى الأرض والصعود للشعریة علاقة ضامة بین الآدَمَیْن ، كأنھا المقدمة ونتیجتھا ، بتوسط واحد وصریح معا ھو "الجسد" . آدم الأول خرج وعاد ، وآدم الآخر نص الرحلتین ، بكل مكتسبات الإنسانیة من معرفة وفلسفة وتصوف ورؤیة للعالم على جناح كلمة لو أطلقھا شاعرنا من التجنیس الأدبي شعرا لكانت كل أجناس الأدب وغیر الأدب . لذا فلیس مستغربا أن یقف آدم الآخر وحیدا في خارطة شعریة لا یشاركھ فیھا سواه ، ویعرف مھماتھ جیدا ، فیبدأ في تأسیسھا وتأثیثھا وربما تأنیثھا ، لكي یعوِّل علیھا ، حسب مولانا "محیي الدین ابن عربي" صاحب أول (نظریة) جسدانیة التقت فیھا المیتافیزیقا بالفیزیقا تحت مصطلح "وحدة الوجود" .
ھي ذي شعریة كونیة لا یمكن أسرھا ضمن مقولات البنیة ولا حتى سیمیائیات الدلالة مھما أوتي تأویلھا من إفراط ولا تناهٍ . شعریة كونیة تتعدد مراجعھا ثم لا تكونھا ولا تكون أیا منھا ، إنھا أقرب للمغامرة منھا إلى الرحلة سابقة التجھیز/التخطیط ، یكتفي فیھا "الدال" بإثبات حضوره "الآن وھنا" مفككا بحضوره كل احتمالات انسجامھ وتماسكھ ووحدة دلالتھ ، إنھ – أي الدال – شعریة تتخل ّق الآن وغیر معنیة إلا بتخل ّقھا واستدامة فعل التخل ّق من نص إلى آخر ، ومن طور جسداني إلى طور سواه . إننا إزاء فلسفة مبتورة عن قصد فصارت شعریة بالفعل . قاحلا من البلاغة المعھودة ومعاھدھا (الدارسة) ، یأخذ "دال" (شعریة) آدم زینتھ (زینتھا) من كل قلق (میتافیزیقي) وشبق (فیزیقي) صانعا من سردھما استعارتھ النوعیة والفریدة (ھل توجد ضرورة لاستخدام ھذه الكلمات الكلاسیكیة !! یؤكد نص آدم ، بطریقتھ ، على أن الإجابة النفي) ، حیث لا تشابھات ولا تشبیھات .. استعارة تفتقد إلى أساسھا ، فتصبح متوحشة (من الوحشة والتوحش معا) سیمیائیا ، تستقطب إلیھا كل شيء یمكنھ إسناد تأبدھا في آبدیتھا ومجھولاتھا . استعارة لا تبدأ من الكلمة بل من المكان (الصفحة) الذي لا تبدو فیھ مجرد كلمة مكتوبة ، بل منكتبة/منوجدة ، كأنھا كانت "الآن وھنا" ومنذ كان مكان . بوحشة تلك الاستعارة (الكونیة) وتوحشھا ، تكون أمام "الھجنة" بمعناھا اللغوي وكذلك الاصطلاحي عند میخائیل باختین ، من حیث ھي ضرورة (حیاة) لا أزعم أن "آدم" الأول أو الآخر (الشاعر) كانا مخیرین فیھا ... تعلمنا طبیعة الحیاة (ھذا اللفظ الذي نلوكھ في افواھنا دون وعي بكلیتھ وشمولیتھ) ولیس اتفاقا مع "دیریدا" ، أن مقولتي النقاء والأصل "حدیث خرافة" (لا نعدم لھا وجھا إدیولوجیا) ، فوقائع الحیاة تؤكد على أنھ لیس ثمة واقع نقي نقاء تاما أو مطلقا ، وكذلك لا أصل یمكن العودة إلیھ فلا نجده مضروبا بالھجنة . وإذن ، فالھجنة ملمح كل شيء ، من عادیاتنا إلى فلسفاتنا إلى فنوننا . ویبدو نص "آدم" ، وھو ینكتب ، موسوما بنعمة/لعنة الحیاة ھذه : "الھجنة" ، فأصوات كثیرة تدخل ، وأخرى تخرج ، وھو – أعني النص – بین دخولھا وخروجھا ھو ھو ، یحتفي بالخارجین احتفاءه بالداخلین ، یودعھم كما یستدعیھم بمحبة طائیة (شاملة محیي الدین وحاتم معا) فائقة .
إننا إزاء شخصیات متعددة ومن ثم شعریات متعددة ، وأولى من ھذا وذاك إزاء عوالم متعددة ، فھل ثمة "مركزیة" ھنا أو "وحدة" ؟ أعتقد أن طرح "آدم الشاعر" (فلنلحق الصفة بموصوفھا إذن) یتجاوز ھذه الكلمات .. المصطلحات .. الثرثرات ، لا مركزیة ولا وحدة ولا بنیة ، ھل أقول ولا دلالة ؟ نعم ، ولا دلالة (ثابتة) ھنا في نصھ أو ھناك . ھنا نص یوجد لأنھ واجب الوجود بحكم فرط إنسانیتھ (نسبة للإنسان ولیس للنزعة المعروفة) لا فرط نصیتھ ، وھنا إشكالھ الحقیقي أو جمالھ الحقیقي لا فرق . إن النصیة إنتاجیة ، بینما "الإنسان" (حتى لا نقول إنسانیة) مبدأ ووجھة نظر ورؤیة ، إلا أنھ تم إقصاؤه منذ أزمنة/فلسفات عدیدة ، لیس من ساحات النقد الأدبي مؤسسات وكانتونات وصالونات ، بل من الخطاب الفلسفي نفسھ بعد كل النزعات العدمیة التي سادتھ . نعم "الإنسان" .. آدم الجسد في كل أسمائھ .. في اكتمال بھائھ .. في ندائھ وأصدائھ .. في نصھ المحروم من النصیة .
وكیف یمتلك نصیتھ نص لا یكف عن مضاعفة دلالاتھ وتشبیكھا بكثیر من الدلالات الغائبة ، وكل ھذا یتم من خلال شكل سردي خالص"السردیة" یصنع في امتداده الخطي وبحریة مفرطة صوره .. حواراتھ .. تناصاتھ .. عوالمھ . ویندرج الجمیع في إیقاعیة حرة ، كما ھي الحیاة إیقاعیة حرة ... وھل ثمة حاجة للكون (شعریة الكون) إلى "وزن وقافیة" !! وما الوزن والقافیة في جنب إیقاعاتھ/إیقاعاتھا !! تعني الإیقاعیة الكونیة إیقاع انكشاف الكون للوعي ، أو ما یسمى في الأدبیات النقدیة "إیقاع الدلالة" ، حیث مفاجأة الدلالة تصبغ علاماتھا بإیقاع تولدھا/انكشافھا . وشعریة آدم ِ- وھي تجتاح اللغة باتجاه بناء عوالمھا المتعددة – تصنع إیقاعھا النوعي والخاص بھا ... إنھا لحظة الخلق (المستدامة) إذ تموسق الامتداد الخطي لحضور علاماتھا/عناصرھا خالقة سیمفونیة مذھلة في تنوعاتھا بنیة متشظیة ، أو تشظیا بنیویا لا فرق ، لا یعادلھا في ھذا إلا مستویات التأویل اللامتناھیة التي یفتتحھا النص/الكتابة ولا تغلقھا أیة سیاقات یحیل إلیھ ، أو تخترع لھاا . ھل قلت "النص/الكتابة"؟ یبدو ذلك ، ویبدو – كذلك – أن مفھوم الكتابة مركزي في شعریة آدم ... إن الكتابة ، في ثقافتنا العربیة على الأقل ، مشبعة بالمیتافیزیقا ، ولا أدري من قائل أن "العالم ، في جسدانیتھ ، كتابة الله" (لعلھ أنا أو أحد غیري ، فلا فرق فیمن یقول الحقیقة) نعم العالم ، في جسدانیتھ ، كتابة الله ، فالبعد المیتافیزیقي للكتابة حاضر وبقوة في الثقافة العربیة ، فلأمر ما كانت الكلمة المقدسة مكتوبة دائما ، فاͿ عز وجل سمى كلامھ "كتابا" ، ومن قبل "القرآن" كانت "ألواح موسى" و"صحف إبراھیم" و "زبور داود"... والإیقاعیة الكونیة لنص آدم یلحقھ بھذا البعد المیتافیزیقي للكتابة ، بل إن كتابة آدم تبدو وكأنھا تعید تجسیده/تجسدنھ مع كل نص منھا . إن لتقاطع الفیزیقي/الجسد مع المیتافیزیقي/ما وراءه یجد تحققھ/انسجامھ في إخلاص نص آدم لكتابیتھ أو لنقل "لوجودانیتھ" بالمفھوم الأنطولوجي ، وذلك من خلال مجازیة مزاحة من اللفظ إلى الرؤیة/الرؤیا ، وفي انزیاحھا ھذا تسقط عن عمد العلة والقرینة وتكون على ما ھي علیھ لأنھ كینونتھا الأكثر أصالة من أي شيء آخر . نعم ، إنھا "مجازیة الرؤیة/الرؤیا" (وجدت الكلمة التي كنت أفتش عنھا منذ البدایة) حقیقة بذاتھا وفي ذاتھا ، والحقائق لا تحتاج إلى قرائن ولا علل ، وكذلك لا تؤول بما ھو أدنى منھا أو نقیضھا . وھكذا یمتلك النص حریة مفرطة تتمثل في دینامیة امتداده الفائقة ، وفي توسیع الرؤیة/الرؤیا وتنویع أسالیب حضورھا واحتمالات تمعنیھا/تدلیلھا ، وكأننا إزاء تداع شعري حر (كما ھو حالھ في الروایة الجدیدة) تجعل من محض التجاور المكاني (من قواعد الكتابیة) تعالقا نسقیا بالضرورة ، وھذه أعلى صور التماسك والانسجام في مكتوب ، شعریا كان أو غیر شعري . ولعل النواة الصلبة لشعریة آدم تتمثل في معاملة الماھیات معاملة الظواھر في علاقاتھا ، وبالتالي ، فھو یقوم بإعمال منطق الواقع في بناء علاقاتھ ، لیمارس نفس فعلھ فیما وراء الواقع ، الأمر الذي یخلق صدمة جمالیة مع أصغر تركیب في النص . ولأنھا علاقة في غیر موضعھا – وإن مارست فعلھا – فھي لا تحكم ما یلیھا ، وھذا ما عبرنا عنھ بالتداعي الشعري الحر . ھذا الخروج من أسر العلاقة "لغة – واقع" ، مضافا إلیھ الخروج من أسر البلاغة ، أطلق شعریة آدم لتسبح حرة


- د. محمد فكري الجزار.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى