عبد الفتاح الديدي - الفلسفة الوجودية

لم يصل المستوى الثقافي في مصر إلى الحد الذي نستطيع معه أن نقول عن حركة فكرية بالذات أو نوع من الفلسفة بأنه قد شاع بين أبنائها وطبقات المتعلمين فيها، ولكننا نستطيع مع ذلك أن نقول عن الفلسفة الوجودية إنها قد شغلت الأذهان وجرى اسمها على الأقلام والألسن واختلف الناس في أمرها اختلافاً كبيراً بين محبذ لها ومندد بها. وهؤلاء يتلقفون أخبارها وينتظرون الأنباء عنها بفارغ الصبر. فيجدون يوماً من يذهب إلى باريس ليعود بعد ذلك فيقول عن شايعيها إنهم فلاسفة الأندية والمقاهي (والمواصلات). وينظرون فإذا بأديب كبير من أدبائنا المعدودين يحمل نبأ خطيراً مؤداه أن الأستاذ الجليل أندريه لالند قد حكم عليها أمامه بأنها فلسفة العدم. فضلا عن أن الجرائد المصرية والأجنبية قد أخذت تنشر عنها أخباراً متصلة الحلقات: فمرة تقول إن الشيوعيين قد صادروا كتاباً من كتب جان بول سارتر - الفيلسوف الوجودي المعروف - في معظم المناطق الأوروبية الخاضعة لحكمهم. ومرة يأتي خبر بأن البابا قد أصدر قراراً بتحريم كتب سارتر لخروجها عما توحي به الشرائع وما تنص عليه الكتب المقدسة. وفي مرة ثالثة يأتي خبر من أسبانيا يصف البوليس هنالك وهو يطارد الوجوديين كما يطارد المهربين والخارجين على القانون. فهذه الأنباء المتواترة من شأنها أن تزعج القائمين بشئون الثقافة والأدب في مصر وأن تدفعهم إلى إثارة موضوعها من حين إلى حين.

ولكن أحداً عندنا لم يناقش هذه الفلسفة مناقشة عادلة صريحة، أو قل إن أحداً عندنا لم يحاول أن يفهم المسألة فهما يؤهله لأن يقف منها موقف المؤيد أو المعارض. فما زالت الوجودية حديثة عهد بالنسبة إلى كثير من الذين يفكرون عندنا ولم تزل موضوعاتها غريبة عن عقولنا ولم تزل روحها غريبة عن مشاعرنا. ويمكن أن نذهب إلى حد القول بأن هذه الفلسفة، وقد جاءت نتيجة لروح عامة أو لحركة معينة في الفكر الأوربي لم تجد كثيراً من القبول لدى أدبائنا ومفكرينا ممن لا يستطيعون الخروج عن نطاق الذوق المصري المتأثر بظروفنا الخاصة كشعب أولاً وكطبقة متعلمة ثانياً. والحق أنها لم تصادف هذا الموقف لدينا فحسب، وإنما وجدت كثيراً من المعارضة ومن النقد في معظم المجلات والصح الإنجليزية والأمريكية. وأغرب من هذا كله وأدعى منه إلى الدهشة والتعجب أن أنصارها أنفسهم والمشايعين لها بأفكارهم وكتبهم ليسوا راضين عنها كل الرضا وأنهم لا يوافقون على نسبتها إليهم.

وأصل الإشكال في هذه الفلسفة هو أنها تتطلب روحاً معينة لدى من يؤمن بها ويتعصب لها، وتقتضي أن يكون في نفس الإنسان صفات خاصة من أجل أن يصير واحداً من المعجبين بها. فليس كل إنسان بقادر على أن تجد فلسفة الوجود عنده موافقة ورضا وأن يقدم على قراءتها بنفس مطاوعة، فإن الكثير من النزعات الاجتماعية والتربوية والدينية - وهي الأكبر تأثيراً في نفوس الناس - لا تتلاءم مع الوجودية في أفكارها وميولها. كذلك يلاحظ أن الفلسفة الوجودية أميل إلى الأدب والفن منها إلى العلم والحقائق المقررة؛ ومن هنا كانت تعول دائماً على الذوق وعلى الإحساس أكثر مما تعول على المعرفة الأصولية المستندة إلى خبرة عملية واتجاه نفعي.

وهناك أسباب موضوعية خالصة تدفع بالناس إلى كراهة هذا النوع الجديد من التفكير: فقد اتجه فلاسفة الوجود إلى العناية بظاهرة الموت مثلا وتفسيرها، والكلام عن الشعور بالقرف، والاهتمام بمسألة العدم وتقديمها على ما عداها وتحليل المواقف المعينة التي يوجد فيها المرء ويحتاج من أجل المرور بها إلى تجربة وجدانية من طراز فريد. فمن ناحية الموضوعات التي تدرسها الفلسفة الوجودية نجد أنفسنا بإزاء جملة من الأفكار الغريبة التي إن لم تكن جديدة بالمرة ففي بعض التحليلات والتفصيلات ما يشعرك بأنك تجاه شيء لم يقع من قبل في دائرة البحث أو في مجال التفسير والتعليل.

والوجودية بعد هذا كله ليست أحادية على طول الخط، وإنما فيها فريق مؤمن يستهوى بكتاباته كثيرين ممن يريدون إشباع نزعتهم الصوفية بتحليل المشاعر الدينية والسلوك في طريق الروح. فكير كجورد وبرديائف ومارسل يأخذون جانباً معيناً في التفكير الوجودي ويسيرون على نمط خاص يجعلنا نطلق عليهم اسم الشق الإيماني ونفردهم قسماً واحداً. وقد كان من الممكن بالنسبة إلى هؤلاء أن يبعثوا الشوق في نفوس قراء الأدب والفلسفة من المتدينين وأن يحببوا المذهب الوجودي إلى قلوب الناس؛ بيد أن تحليلاتهم الطويلة، وأسلوبهم في معالجة المسائل، وتطرفهم في ناحية الإحساس المرهف، وتفصيلهم الدقيق عند شرح الحالات الوجدانية زهَّد الكثيرين فيهم وجعلهم يحسون بالملل والضيق عند قراءة صنوف نتاجهم.

فهذه كلها من المسائل التي توضح لنا السبب المباشر في أن الكثيرين من الأدباء والمفكرين لم تعجبهم فلسفة الوجود، وتوقفنا على أصل الداء في كراهية الناس لهذا النوع من التحليل العقلي ولكنها بغير شك لا تقنع الباحث، ولا تصده عن مراجعة هذه الأفكار مراجعة الإنسان المسئول عن رأيه، ولا توقفه عن قراءة ما ينتجه فلاسفتهم من الكتب والمقالات والبحوث. وأغلب ظني أن الإنسان الذي يحول بين عقله وبين هذا الزاد الفكري الجديد سيخسر كثيراً من كونه قد حرَّم على نفسه ضرباً من ضروب الإحساس بالحياة على نحو غير مألوف وأساء إلى فكره بأن أبقاه في دائرة مقفلة من المذاهب التقليدية العتيقة.

فالفلسفة الوجودية إنما جاءت كرد فعل لطغيان التفكير المذهبي على عقول الناس وأرادت أن ترفع عن كاهل الفكر البشري هذه الأثقال التي تركتها أحقاب من الفلسفة التجريدية الجوفاء. وبالإضافة إلى هذا كله غيرت من اتجاه التفكير واستبدلت بالموضوعات القديمة غيرها مما يُعدُّ داخلاً في نطاق التحليل العادي وبطبيعة الحال أسقطت من حسابها في هذه العملية مجموعة من الأفكار البالية التي كان سيستحيل على الإنسان أن يجد لها تفسيراً معقولاً وإن ظل يتأملها أجيالا بعد أجيال. وذلك كله بحكم خروجها عن نطاق البحث الفلسفي، ومن باب أولى عن نطاق البحث العلمي. فهي مسائل معلقة ليس يتأتى الفصل فيها لطائفة من البراهين دون غيرها ويستحيل أن تخضع لمناقشة سليمة معقولة. ولذلك صار الموضوع الأساسي بالنسبة إليها هو الإنسان؛ وعدنا من جديد نحس أمام مفكريها بأن الوجود في حد ذاته مشكلة على نحو ما أعلنها شكسبير على لسان هاملت في يوم مضى

وفي الفلسفة الوجودية نزعة ميتافيزيقية واضحة؛ ولكن لا بد من أن نراعي دائماً فيما يتعلق بهذه الميتافيزيقا أنها ليست مثل غيرها، وأنها تنفرد بصفات خاصة ومعالم ذاتية هي وليدة التيار الفكري السائد بعد الانحلال الحضاري الأخير في الغرب، وتتبدى مظاهر الانحلال في تلك الحياة الكسيحة التي انتهت إليها أوربا، والانهزامات المتوالية على فرنسا وألمانيا والدويلات المجاورة لهما بالذات، فضلاً عن المجاعات الحاصلة من يوم إلى يوم ومعاناة الجيل الجديد من الشباب الأوربي لألوان من العيش ولضروب من الحياة لم يألفوها من قبل. فالمراحل الفكرية القلقة التي مرَّت بهم، والحالات النفسية الشاذة التي خضعت لها شعوب الغرب المثقفة الحية كان لها أكبر الأثر في مشاعر الشبان وآرائهم، وكانت النتيجة أن آمنوا بالمذاهب ذات الصبغة الزاهية، وذات الطابع الحاد، وذات الميل المتطرف. وبعد هذا كله - أو قبل هذا كله - أبعدتهم كل البعد عن فلسفات الخيال والوهم، والأفكار التي لها طابع روحاني زائف أو خصائص دينية كاذبة.

ومن هنا كانت الميتافيزيقا عندهم غير متملقة بشيء خارج الوجود، ولا باحثة في أمور تتعدى نطاق المحسوس. وبطبيعة الحال أنا لا أعني الطائفة المسيحية من الوجوديين، فهؤلاء لهم حكمهم الخاص. إذ أن فلسفة الوجود - كما قلنا - فيها شق مؤمن يدخل تحت لوائه من سبق أن ذكرناهم بالإضافة إلى مارتن بوبر وكارل بارث. أما الشق الآخر فإلحادي متطرف مثل هيدجر وسارتر وسيمون دي بوفوار ومارلو بونتي. وهؤلاء الأخيرون هم الذين نعنيهم كلما تحدثنا عن ميتافيزيقا الوجود. وهي ميتافيزيقا تخضع للتجارب الحية داخل الوجود، وموضوعها الوجود في العالم كما يقول هيدجر. ونجد التعبير عنها كاملاً في كلمة سيمون دي بوفوار إذ تقول: (في الحق أنه لا يوجد أحد خارج الوجود.) وبهذا التصريح منها اعتقدت في أنها قد حدت من الحلم الذي طالما خطر على أذهان البشر بوجود موضوعية غير إنسانية، وأنها قد أثقلت الخيال بقيود وروابط تجعل من المستحيل بالنسبة إليه فيما بعد أن يخرج على ما هو ماثل أمامه وقائم من حوله. ويؤيدها سارتر في هذا المعنى بقوله:

(ليس هناك أكوان أخرى غير كون إنساني واحد هو الكون المنسوب إلى الذاتية الإنسانية). ويعني سارتر خصوصاً بأن يقدَّم لنا تفرقة هامة حينما يتكلم عن الميتافيزيقا وهو يقدم عليها علم الوجود بوصف هذا العلم تمهيداً للميتافيزيقا التي يأتي على عرضها في كتبه. وينظر إلى هذا العلم كما لو كان بحثاً في الحالة الراهنة للموجود، والأقسام التي يمكن أن يرد إليها (كالموجود في ذاته والموجود لذاته). أما الميتافيزيقا عنده فهي التي تضع المشكلة النهائية الخاصة بإمكانيات هذا الموجود على النحو الذي يوحي به علم الوجود.

فالميتافيزيقا الوجودية عند سارتر وإضرابه ليست بحثاً في المجهولات، ولا تخمينا في مسائل الروح والعالم الآخر، ولا هي عود إلى النظر في مراتب الوجود وعالم الأفلاك. . .

ومن هنا حاول البعض في انتقاده له أن يتهمه بأنه مادي كما فعل روجيه تروافونتين في كتابه عن الاختيار لدى جان بول سارتر. وبذلك نلاحظ دائماً عند الكلام في تاريخ الميتافيزيقا - كما هو واضح - جديدة كل الجدة ولا غريبة كل الغرابة عن الفكر الفلسفي؛ فلها إرهاصات من الفلسفات الباحثة فيما يدخل ضمن حدود الموجودات على الرغم من خروجه عن نطاق التجربة.

وإذا حاولنا أن نعود بأذهاننا إلى الوراء من أجل النظر في الأصول التي نبعت منها فلسفة الوجود اصطدمنا بمشكلة أخرى لا تقل إعساراً عن أي مشكلة تصدت لها هذه الفلسفة. فالواقع أنه من الصعب جداً أن نعثر على خط واحد مرت به هذه التيارات المتلاحقة في إبانة وانكشاف. بل يصعب في الغالب أن تجد نقطة بدء واحدة لدى جميع الذين كتبوا في هذا الموضوع. فبعضهم يردها إلى شخصية سقراط واعترافات القديس أوغسطين. وضد هؤلاء مباشرة من يزعم أن أصلها موجود في فلسفة الحياة عند نيتشه وإلى شعر الحياة في الحركة الرومانتيكية. ومعظم الذين كتبوا تأريخها يقررون بزوغها من محاولة كيركجورد الفلسفية عندما عارض هيجل في إيمانه بالمطلق وبالروح الكلية. ولكن هذا ما يمنع الكثيرين من أن يجدوا لها مشابهات ومقابلات في كتابات باسكال وقصص إبسن ودستويفسكي وفي أشعار بودلير وأرتور رامبو

أما عن سارتر نفسه فقد رجع بتفكيره إلى كل من هُسِرْل وهيدجر. وهذا واضح وطبيعي؛ فعلى الرغم من أنه يصعب حتى الآنتحديد الموضوعات التي بحثها سارتر تجديداً ختامياً فمن الممكن أن نجد لديه نوعين من التفكير أحدهما نفسي والآخر متافيزيقي. وكلاهما راجع إلى الأبواب التي تفتحت على أيدي هذين الفيلسوفين لأول مرة في تاريخ الفكر.

فلم يعد من الطبيعي بعد هذا كله أن نظل في موقف سلب بإزاء هذه الفلسفة التي شغلت أذهان الناس وقتاً طويلاً والتي لها من تاريخها ما يؤهلها لأن تعبر عن اتجاه معين في المراحل الحاضرة من حياة الأفراد والجماعات. ولا بد من أن نحاول شيئاً بازاء هذه الحركة الضخمة؛ فإن لم يكن بد من شيء فلا أقل من أن نتأثر بها تأثرنا بالسحابة الماضية في يوم صائف.

عبد الفتاح الديدي

: 24 - 10 - 1949

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى